قبائل السادة الأنصار بالديار الأسيوطية
فصلٌ في فضل النسب الشريف وتمهيدٌ في مكانة الأنصار
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فإنه من المقرر عند أهل العلم والمعرفة، والمسلَّم به عند ذوي الألباب والبصيرة، أن الأنساب الشريفة والأحساب المنيفة من أعظم ما يُعتنى بحفظه وضبطه، وأجلّ ما يُعنى بتدوينه وتقييده، إذ بها تُعرف المراتب وتتميز المناقب، وبها يُصان التاريخ من الاختلاط والالتباس، وتُحفظ الأصول من الدخيل والملتبس.
واعلم ـ رحمك الله وأرشدك إلى سواء السبيل ـ أن من أطيب الأنساب معدنًا، وأزكاها منبتًا، وأشرفها أصلًا، وأعلاها منزلةً ومحلًا، نسب الأنصار الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، الذين شرّفهم الله جل وعلا بنصرة دينه وحماية نبيه صلى الله عليه وسلم، فآووا المهاجرين حين هاجروا، ونصروا الرسول حين استُضعف، وبذلوا الأموال والأنفس في سبيل إعلاء كلمة الله، حتى نزل فيهم القرآن مادحًا ومثنيًا، ووصفهم بأوصاف لم تجتمع لغيرهم من القبائل.
فهم الأوس والخزرج، ابنا حارثة بن ثعلبة من الأزد، الذين نزلوا يثرب فعمّروها وشيّدوا مجدها، ثم كانوا أنصار الإسلام وحماة الدين، فاستحقوا بذلك ثناء الله ورسوله، وصار لقب "الأنصار" شرفًا لا يدانيه شرف، وفخرًا لا يعلو عليه فخر.
ولما كان النسب إذا طاب معينه وصفا مورده، طابت فروعه وامتدت أغصانه في كل مكان، فقد انتشرت ذرية هؤلاء الأنصار الكرام في أقطار الأرض، ونزل منهم في صعيد مصر ـ وخاصةً في نواحي أسيوط وما حولها من البلدان ـ جماعاتٌ وقبائل، فاستوطنوا تلك الديار، وتناسلوا فيها، وصاروا من أعيان أهلها وذوي المكانة بين ظهرانيها.
فصلٌ في ذكر البيوتات الأنصارية المشهورة بنواحي أسيوط
ولقد كان من أشهر هذه البيوتات الأنصارية التي استقرت في بلاد أسيوط وضواحيها، وذاع صيتها بين الخاص والعام، ثلاثة بيوتات كبار، هي: المعابدة، والطناينة، والعكارمة. وهي بيوتاتٌ جليلة القدر، شريفة الأصل، معروفة النسب، محفوظة السلسلة إلى الصحابة الأجلاء رضوان الله عليهم.
ولكل واحدٍ من هذه البيوتات تاريخٌ عريق، وأصلٌ ضارب في أعماق الزمان، وفروعٌ تشعبت وانتشرت في القرى والنواحي، فصار لها شأنٌ عظيم، ومكانةٌ مرموقة بين أهل تلك البقاع.
بابٌ في تفصيل نسب المعابدة وذكر فروعهم وأماكن استقرارهم
الفرع الأول: في بيان أصل المعابدة ونسبهم الشريف
أما المعابدة ـ وفقنا الله وإياك لمعرفة الحق واتباعه ـ فهم من أشرف قبائل العرب بصعيد مصر وأكرمها محتدًا، إذ يرجع نسبهم الطاهر إلى قبائل بني العباس والسادةالأنصار و ربيعة و هوارة والمرابطين وغيرهم من كرام القوم ، أنصهروا في حلف عربي أندلسي عقب سقوط حاضرة بلاد الإسلام دولة الأندلس
والأنصار المعابدة ذرية الصحابي الجليل قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه كان من أعظم رجالات الأنصار مكانةً وأرفعهم منزلةً، وكان أبوه سعد بن عبادة سيد الخزرج وحامل رايتهم، وأحد النقباء الاثني عشر الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وكان من أجواد العرب المشهورين، حتى قيل: "أجود من حاتم"، فيُقال: "بل أجود من سعد". وقد ورث ابنه قيس هذا الجود والكرم، وزاد عليه الشجاعة والحزم، فكان من خيار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المقربين إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
الفرع الثاني: في ذكر بطون الأنصار المعابدة وأسرهم المتفرعة
وقد تفرع من هذا الأصل الشريف عدة بطونٍ وأسر، استقرت في مواضع شتى من نواحي أسيوط، ومن أشهر هذه البطون وأكثرها ذكرًا:
الطائفة الأولى: قبيلة الشوافع
وهم بطنٌ كبير من المعابدة، يُعرفون بأسماء متعددة، منها: الشافعي، والشافع، والشافعين، وكلها ترجع إلى أصل واحد. وقد نزلت هذه الأسرة الكريمة في عدة مواضع من نواحي أسيوط، فمنهم من استقر في موشا، وهي من القرى المعروفة التابعة لمركز أسيوط، ومنهم من سكن نجع عبد الرسول من نفس المركز، ومنهم طائفةٌ أخرى نزلت في صنبو من أعمال ديروط.
وقد اشتهر من هذه الأسرة جماعةٌ من أهل العلم والصلاح، وكان لهم شأنٌ في بلادهم، وحُفظت أنسابهم في السجلات والمشجرات، وتوارثوا المكانة والجاه كابرًا عن كابر.
الطائفة الثانية: عائلة السعايدة
من ذرية الصحابي الجليل قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه، الساعدي الخزرجي الأنصاري، وهم أهل علم وخلق وتقوى.
الطائفة الثالثة: آل الأحمر
وهذه أسرةٌ لها شأنٌ عظيم وتاريخٌ مجيد، إذ يرجع نسبها إلى بني الأحمر، ملوك غرناطة الذين حكموا الأندلس، وهم من ذرية محمد بن يوسف بن نصر، الملقب بـ"الغالب بالله الأحمر"، مؤسس الدولة النصرية في الأندلس، والذي كان آخر من حكم المسلمون من الأندلس قبل سقوطها.
وقد ثبت عند أهل الأنساب أن بني الأحمر، ملوك غرناطة، يرجع نسبهم إلى سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه، وهذا مما اشتهر واستفاض، وذُكر في كتب التاريخ والأنساب.
ولما سقطت غرناطة ودالت دولة الإسلام في الأندلس، رحل من بني الأحمر جماعةٌ إلى بلاد المغرب ومصر، فاستقر بعضهم في صعيد مصر، ونزلوا في الحبالصة من أعمال القوصية وما جاورها من القرى، وبقوا هناك إلى يومنا هذا، محتفظين بنسبهم الشريف، معروفين بأصلهم الكريم.
بابٌ في ذكر الطناينة ونسبهم إلى بني ظفر من الأوس
وأما الطناينة ـ أعزهم الله ـ فهم بيتٌ آخر من بيوت الأنصار الكرام، وأصلهم من الأوس لا من الخزرج، وقد اشتهروا بهذا اللقب "الطناينة" نسبةً إلى جدهم الطناني.
ويرجع نسبهم الشريف إلى زين الدين ظافر الطناني بن محمد بن صالح بن ثابت بن قيس بن الخطيم الأنصاري الظفري، وهو من بني ظَفَر بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، وهم بطنٌ مشهور من بطون الأوس الكبرى.
ومن المعلوم أن بني ظفر كانوا من أهل القوة والشجاعة في الجاهلية والإسلام، وكان منهم رجالٌ أشداء، شهدوا المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لهم بلاءٌ حسن في نصرة الدين.
وقد نزل الطناينة في المنشأة الكبرى من أعمال القوصية، واستوطنوها، وصاروا من أعيان أهلها، واشتهروا فيها بالفضل والمروءة، وحُفظت أنسابهم في دواوين القبائل والأسر، وكان لهم شأنٌ معروف ومكانةٌ مرموقة بين أهل تلك الديار.
ومن عادة النسابين أن يُلحقوا باسم القبيلة أو الأسرة ياء النسبة، فيقال: الطناني، أي المنسوب إلى الطنان أو إلى قبيلة أو مكان بهذا الاسم، ثم جُمع فقيل: الطناينة، على عادة أهل مصر في الجمع بالياء والنون.
بابٌ واسعٌ في تفصيل نسب العكارمة وفروعهم الكثيرة
الفرع الأول: في أصل العكارمة ونسبهم إلى سعد بن معاذ
وأما العكارمة ـ رفع الله قدرهم ـ فهم من أعظم بيوت الأنصار بصعيد مصر شأنًا، وأكثرها فروعًا وأسرًا، إذ تفرع منهم بطونٌ كثيرة، انتشرت في قرى القوصية وأسيوط.
ويرجع نسبهم الشريف إلى الصحابي الجليل، والبطل النبيل، سيد الأوس وفارسها، سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس الأوسي الأنصاري، من بني عبد الأشهل، رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا الصحابي الجليل له مكانةٌ عظيمة في الإسلام، فهو الذي اهتز لموته عرش الرحمن كما ورد في الحديث الصحيح، وهو الذي حكّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة فحكم فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات، وهو سيد الأوس المطاع في قومه، وكان إسلامه فتحًا على قومه، وكان من أشد الناس دفاعًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد استُشهد في غزوة الخندق من أثر سهمٍ أصابه، فكان من شهداء تلك الغزوة العظيمة.
الفرع الثاني: في ذكر فروع العكارمة وبطونهم
وقد تفرع من نسل هذا الصحابي الجليل فروعٌ كثيرة، منها ما استقر في صعيد مصر، ومن أشهر هذه الفروع:
البطن الأول: الحرازية
وهم بطنٌ معروف من العكارمة، يُنسبون إلى جدهم حراز أو الحراز، وقد اتخذوا مساكنهم في قرى متعددة، أشهرها قرية "قرى الأنصار" ـ وهذه القرية سُميت بهذا الاسم نسبةً إلى كثرة الأنصار النازلين فيها ـ وكذلك في قرية "مير" من أعمال مركز القوصية.
وقد تفرع من الحرازية عدة أسرٍ مشهورة، حُفظت أنسابها وعُرفت فروعها، ومن هذه الأسر:
آل وهمان: وهم أسرةٌ كبيرة، نُسبوا إلى جدهم وهمان، ولهم انتشارٌ في القرى المذكورة.
آل جاد الله: وهم من الأسر المعروفة، وقد تسمّوا بهذا الاسم المبارك الذي يدل على التفاؤل والرجاء في عطاء الله.
آل جاد الكريم: وهم أسرةٌ أخرى من الحرازية، تحمل اسمًا يدل على شرف الأصل والتسمي بأسماء الله الحسنى.
آل الشيخ: وهذا اللقب يدل على أن من أجدادهم من كان معروفًا بالعلم أو الصلاح، فلُقّب بالشيخ، ثم صار اسمًا لذريته من بعده.
وهذه الأسر الأربع كلها من الحرازية، وكلها ترجع إلى أصلٍ واحد من العكارمة.
الفرع الثالث: في ذكر أولاد جاد المولى
وهؤلاء فرعٌ آخر كريم من فروع الأنصار بصعيد مصر، نزلوا قرية مير من أعمال مركز القوصية، ويُرجّح أهل المعرفة بالأنساب أن نسبهم يتصل بالعكارمة الأنصار، وإن لم يُحفظ تفصيل السلسلة بينهم وبين سعد بن معاذ.
وقد كان لهذه الأسرة مكانةٌ محمودة في بلادهم، واشتهروا بالكرم والمروءة، وحُفظ نسبهم عند أهل تلك النواحي، وعُرفوا بانتمائهم إلى الأنصار الكرام.
بابٌ في ذكر أولاد جاد الحق ونسبهم الأنصاري
وثمّ أسرةٌ أخرى من أسر الأنصار بصعيد مصر، تُعرف بـ"أولاد جاد الحق"، وهم من ذرية جاد الحق بن علي بن سالم الأنصاري، وقد اتخذوا مساكنهم في بني هلال من أعمال مركز القوصية.
وهذه الأسرة وإن لم يُذكر تفصيل اتصال نسبها بأحد الصحابة بعينه، إلا أنها معروفةٌ بالنسب الأنصاري، وقد حُفظ نسبها في السجلات والوثائق، وعُرفت بين أهل البلاد بانتمائها إلى الأنصار.
وقد جرت عادة بعض الأسر أن تُعرف بالنسب الأنصاري الجامع، دون أن يُحفظ تفصيل اتصالها بأحد بطون الأوس أو الخزرج بعينه، وذلك لبُعد العهد، أو لعدم الاعتناء بحفظ السلسلة كاملة، أو لأسبابٍ أخرى. لكن هذا لا يقدح في نسبهم الأنصاري، ما دام محفوظًا مشهورًا عند أهل بلادهم، مُثبتًا في الوثائق والسجلات.
خاتمةٌ في فضل هذه البيوتات وحفظ نسبها
وبعد، فقد تبيّن لك ـ أيدك الله بتوفيقه ـ أن بلاد أسيوط من صعيد مصر كانت ولا تزال دارًا لبيوتاتٍ كريمة من ذرية الأنصار الكرام، الذين آووا ونصروا، وبذلوا الأموال والأنفس في سبيل الله ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذه البيوتات ـ المعابدة والطناينة والعكارمة وغيرها ـ قد حفظت أنسابها على مدى القرون، وتوارثت المكانة والشرف كابرًا عن كابر، فكانوا أهل فضلٍ ومروءة، وأصحاب علمٍ وصلاح، لم يُنسوا أصلهم الشريف، ولم يتنكروا لنسبهم الكريم، بل تمسكوا به، وافتخروا بالانتماء إلى من نصر الله ورسوله.
وقد كانت عادة هذه البيوتات أن تتسمى بأسماء أجدادها، أو بألقابٍ تُميزها، أو بأسماء القرى والنواحي التي نزلوا فيها، فصارت هذه الأسماء علامةً على انتسابهم، ومعرفةً لفروعهم وبطونهم.
وإن مما يُحمد لأهل صعيد مصر ـ وخاصةً في نواحي أسيوط والقوصية ـ أنهم حفظوا أنساب هذه البيوتات الشريفة، واعتنوا بتدوينها وضبطها، فلم تختلط على الأجيال، ولم تضع في غياهب النسيان، بل بقيت محفوظةً مشهورة، يعرفها الخاص والعام.
وإن من أوجب الواجبات على أبناء هذه البيوتات أن يحفظوا هذا النسب الشريف، وأن يصونوه من الكذب والادعاء، وأن يتخلقوا بأخلاق أجدادهم الأنصار، من الكرم والشجاعة والنصرة للحق والدفاع عن الدين، فإن النسب الشريف أمانةٌ وتكليف، وليس مجرد فخرٍ وتشريف.
نسأل الله تعالى أن يحفظ أنساب المسلمين، وأن يُعلي شأن ذرية الصحابة الكرام، وأن يجمعنا بهم في دار كرامته، إنه سميعٌ مجيب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
تمت بحمد الله وتوفيقه
