عصبية الجاهلية… وصدى نفس العصبية في المجتمع الصعيدي اليوم
جذور العصبية وامتدادها عبر الزمن
في أعماق التاريخ الإنساني، تكمن ظاهرة اجتماعية خطيرة ظلت تتكرر عبر العصور والأمكنة، ألا وهي "العصبية" التي حذر منها الإسلام وحاربها بشدة. هذه العصبية التي كانت سائدة في الجاهلية قبل الإسلام، لا تزال تجد لها صدى في كثير من المجتمعات المعاصرة، وبخاصة في الصعيد المصري، حيث تتجلى في صور مختلفة لكنها تحمل نفس الجوهر: تغليب الولاء للعائلة والقبيلة والنسب على الحق والعدل والإنصاف.
في قلب الصعيد المصري، كما كان الحال في مكة قبل بزوغ فجر الإسلام، توجد عصبية عميقة الجذور تُقدّم الانتماء للفرع والعشيرة والدم على كل القيم الإنسانية والدينية. هذه العصبية الصعيدية ليست سوى انعكاس حيّ ومباشر لعصبية الجاهلية التي كانت تسيطر على بطون قريش وقبائل العرب، وأدت إلى أعظم الصراعات وأشد الفتن وأطول الحروب التي استمرت عقودًا من الزمن.
مشهد من التاريخ: عصبية الجاهلية في أوضح صورها
في مشهد مؤثر ومعبّر من مسلسل "الفاروق عمر" رضي الله عنه، نجد تجسيدًا حيًّا ودقيقًا لعصبية الجاهلية في حوار درامي بين أبي جهل عمرو بن هشام المخزومي، أحد أشد أعداء الإسلام، وبين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل إسلامه. في هذا الحوار الكاشف، يقول أبو جهل بصراحة مدهشة:
"كنا وبنو عبد مناف كفرسي رهان… إذا أطعموا أطعمنا، وإذا سقوا سقينا، وإذا حملوا حملنا، وإذا أجاروا أجرنا… ثم قالوا: منا نبي! فمتى ندرك ذلك؟ والله لا ندرك ذلك أبدًا! لا والله لا نتبعه ولو أتانا بكل آية، ولو جاء بالشمس في يمينه والقمر في شماله!"
هذا الحوار يكشف بوضوح تام جوهر عصبية الجاهلية وحقيقتها المرّة: إنها تعصب أعمى للفرع والعشيرة والنسب والدم، حتى ولو كان الحق واضحًا كالشمس في رابعة النهار. أبو جهل هنا لا ينكر صدق النبي ﷺ، ولا يشكك في رسالته، بل يعترف ضمنيًا بها، لكنه يرفضها فقط لأنها جاءت من بني هاشم، من بطن منافس لبطنه (بني مخزوم) في السيادة والمجد!
هذا الموقف يكشف أن المشكلة لم تكن في الدليل والبرهان، بل في العصبية والكبر والحسد. لقد كان أبو جهل وأمثاله يدركون الحق لكنهم رفضوه، ليس لشبهة عقلية أو دليل منطقي، وإنما لمجرد أن قبوله يعني الاعتراف بتفوق بطن على بطن، وفرع على فرع.
مواقف بطون قريش المتباينة في زمن الدعوة
لفهم عمق هذه العصبية وتأثيرها، يجب أن ننظر إلى مواقف بطون قريش المختلفة من الدعوة الإسلامية، وكيف تحكمت العصبية في تشكيل هذه المواقف:
1. بنو مخزوم: العداوة المبنية على التنافس
وقف بنو مخزوم - وهم من أكثر بطون قريش ثراءً ونفوذًا - ضد الدعوة بشراسة منقطعة النظير، ليس لأنهم اقتنعوا ببطلانها، بل دفاعًا عن شرفهم وكبريائهم القبلي. كانوا يعتقدون أن النبوة في بني عبد مناف (وخاصة بني هاشم) تهبط من مكانتهم وتقلل من شأنهم بين قريش. من بني مخزوم خرج أبو جهل (عمرو بن هشام)، والوليد بن المغيرة، وهشام بن الوليد، وغيرهم من أشد المعاندين للإسلام.
وهذا حال معظم بطون قريش الأخرى التي وقفت ضد الدعوة بدافع العصبية:
بنو تيم: خرج منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لكن أغلبهم عادوا الدعوة خوفًا من سيادة بني هاشم
بنو زهرة: رغم أن أم النبي ﷺ منهم، إلا أن أكثرهم تأخروا في الإسلام
بنو عبد الدار (بنو شيبة): تمسكوا بامتيازاتهم في خدمة الكعبة وعارضوا الدعوة
بنو الحارث، بنو محارب، بنو عدي، بنو سهم، بنو جمح، بنو أسد: كلهم وقفوا مواقف معادية أو متحفظة بسبب العصبية القبلية
2. بنو عبد مناف: الانقسام الداخلي
رغم أن النبي ﷺ من بني عبد مناف، إلا أن هذا البطن الكبير انقسم بين قبول الحق ورفضه. والسبب ليس عدم وجود الدليل أو البرهان، بل لأن النبي ﷺ كان تحديدًا من بني هاشم، أحد فروع بني عبد مناف، فحسد بعض أبناء البطون الأخرى المجد الذي ناله أبناء عمومتهم من بني هاشم.
3. بنو هاشم: حملة الرسالة والدعوة
وقف بنو هاشم في معظمهم مع النبي ﷺ، وحملوا رسالة الدعوة بكل ثقلها، وصمدوا رغم الأذى الشديد والحصار الاقتصادي والاجتماعي الذي فُرض عليهم في شعب أبي طالب لمدة ثلاث سنوات عجاف. حتى من لم يسلم منهم مثل أبي طالب عم النبي، وقف معه دفاعًا عنه بدافع القرابة والنسب، وهذا يظهر أن العصبية سلاح ذو حدين.
4. بنو أمية (بنو عبد شمس): العداوة المستحكمة
حارب بنو أمية الدعوة بشراسة، بقيادة أبي سفيان بن حرب وغيره، خوفًا من أن تكون النبوة والسيادة خارج بطنهم، فأحاطوا بأنفسهم العداوة للإسلام. كان التنافس التاريخي بين بني هاشم وبني أمية (كلاهما من بني عبد مناف) عاملًا رئيسيًا في هذه العداوة. وكذلك كان موقف بني نوفل بن عبد مناف، الذين رأوا في الإسلام تهديدًا لمكانتهم الاجتماعية.
5. أبو لهب: عداوة القرابة الأشد مرارة
أبو لهب (عبد العزى بن عبد المطلب) عم النبي ﷺ مباشرة، أخو أبيه، نقم على ابن أخيه النبي ﷺ وعاداه أشد العداوة، ليس لشكّ في رسالته أو تكذيب لدعوته، بل لأن المجد والنبوة كانت لمحمد بن عبد الله لا له. كان يقول في حسرة وغيظ: "لقد تفرقنا على هذا الأمر" - أي أن الشرف والمجد ذهب لمحمد دونه رغم أنهما من نفس البيت! هذا النموذج يمثل أخطر أنواع العصبية: عصبية القريب على قريبه.
واقع العصبية في الصعيد المصري اليوم: أمثلة حية ومؤلمة
للأسف، فإن عصبية الجاهلية ليست مجرد قصة من الماضي البعيد نقرأها في كتب التاريخ والسيرة، بل هي خطر حيّ وواقع ملموس يتكرر بصور مختلفة في كثير من مجتمعاتنا المعاصرة. وفي الصعيد المصري تحديدًا، نجد أن هذه العصبية لا تزال تتحكم في كثير من العلاقات الاجتماعية والمواقف الحياتية، تمامًا كما كانت تتحكم في مكة قبل الإسلام.
الأمثلة الواقعية من الصعيد:
1. العصبية في النزاعات والثارات
في كثير من قرى ونجوع الصعيد، عندما يحدث خلاف أو نزاع بين شخصين، سرعان ما يتحول الأمر إلى صراع بين عائلتين أو قبيلتين بأكملهما. لا يسأل أحد: من المظلوم؟ من المخطئ؟ بل السؤال الأول والأخير: من أي عائلة هو؟
مثال واقعي: في إحدى قرى أسيوط، حدث خلاف بسيط بين شابين حول أرض زراعية، الحق واضح لأحدهما بالوثائق والشهود، لكن عائلة الطرف المخطئ وقفت معه بالكامل، ليس لأنه على حق، بل لمجرد أنه منهم. تطور النزاع إلى مواجهات استمرت سنوات، سقط فيها قتلى وجرحى، وتشردت أسر، كل ذلك من أجل عصبية عمياء لم تبحث عن الحق ولا العدل.
2. العصبية في الانتخابات
في الانتخابات البرلمانية والمحلية، نرى كيف تتحكم العصبية في اختيار المرشحين. الناس لا يصوتون للأكفأ أو الأصلح أو الأنزه، بل يصوتون لمن ينتمي لعائلتهم أو قبيلتهم، حتى لو كان فاسدًا أو جاهلًا أو غير مؤهل.
مثال واقعي: في انتخابات مجلس النواب بمحافظة سوهاج، ترشح ثلاثة مرشحين، أحدهم دكتور جامعي ذو سمعة طيبة وكفاءة عالية، والآخران أقل كفاءة بكثير لكنهما من عائلات كبيرة. انقسم الناخبون على أساس عائلي بحت، وفاز أحد المرشحين الأقل كفاءة لمجرد أن عائلته أكبر عددًا! لم يسأل الناس: ماذا سيقدم لنا؟ ما برنامجه؟ بل فقط: هل هو منا؟
3. العصبية في المصاهرة والزواج
في الصعيد، كثيرًا ما ترفض عائلات تزويج بناتها لشباب صالحين أكفاء، لمجرد أنهم من عائلة "أقل" مكانة اجتماعية، أو من "فرع" آخر، حتى لو كانوا أصحاب دين وخلق ومال.
مثال واقعي: شاب من قرية في قنا، متعلم وذو وظيفة مرموقة، ملتزم دينيًا وأخلاقيًا، تقدم لخطبة فتاة من نفس القرية، لكن عائلتها رفضت بشدة، ليس لعيب فيه، بل لأن عائلته "ليست من نفس الحلف الواحد الذي يجمعهم " في القر
المحافظة! تزوجت الفتاة لاحقًا من شخص من عائلتها، لكنه كان أقل علمياً، سيء الخلق، وعاشت حياة تعيسة. هنا العصبية أضاعت السعادة وأضاعت الدين: قال رسول الله ﷺ: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير".
4. العصبية في الشهادات القضائية
من أخطر مظاهر العصبية في الصعيد أن البعض يشهد زورًا لصالح أبناء عائلته في المحاكم والنزاعات، حتى لو كانوا على باطل. الشاهد لا يسأل نفسه: هل هذه شهادة حق؟ بل يقول: "لازم أقف مع أهلي وعيلتي".
مثال واقعي: في قضية شهيرة نزاع على ملكية أرض بالمنيا، شهد عشرة أشخاص من عائلة واحدة بشهادات متطابقة لصالح أحد أبناء عائلتهم، رغم أن الحق كان واضحًا لصالح الطرف الآخر بالمستندات. اكتشف القاضي لاحقًا أن جميع الشهود كانوا أقارب، وأن شهادتهم كانت محض عصبية عائلية. هذا إثم عظيم، فالله تعالى يقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ" (النساء: 135).
5. العصبية في الوظائف والأعمال
في بعض المؤسسات والشركات في الصعيد، يُفضّل صاحب العمل تعيين أبناء عائلته أو قبيلته، حتى لو كانوا أقل كفاءة من غيرهم. وفي المناصب القيادية، يُرقّى القريب ويُهمّش الغريب، ليس على أساس الجدارة، بل على أساس القرابة.
مثال واقعي: في جمعية أهلية بأسوان، كان هناك موظف كفء ومخلص عمل لسنوات طويلة، لكن عندما خلا منصب المدير، تم تعيين قريب لرئيس مجلس الإدارة في المنصب، رغم أن هذا القريب أقل خبرة وكفاءة بكثير. السبب الوحيد: "لازم المنصب يفضل في العيلة".
6. العصبية في تقسيم الميراث
رغم أن الإسلام حدد قسمة الميراث بوضوح تام، إلا أن العصبية تدفع بعض العائلات في الصعيد لحرمان البنات من ميراثهن، أو إعطائهن أقل من حقهن الشرعي، بحجة أن "الأرض والمال لازم يفضل في العيلة" ولا يذهب لعائلة الزوج!
7. العصبية في الصلح والعفو
من أجمل تعاليم الإسلام الصلح والعفو والصفح، لكن العصبية في الصعيد أحيانًا تمنع هذا. العائلة التي تعفو أو تصالح تُتهم بالضعف، والشخص الذي يعفو عن قاتل أبيه أو أخيه يُنظر إليه على أنه "وصم عار" على العائلة!
مثال واقعي: في محافظة قنا، قتل شاب آخر في مشاجرة، وأراد والد القتيل أن يعفو عن القاتل لوجه الله، خاصة أن القاتل لم يتعمد القتل، لكن عائلته الكبيرة رفضت رفضًا قاطعًا، وهددوه بالتبرؤ منه إن عفا! قالوا: "العفو ضعف، والعائلة اللي تعفو تتداس". فصار الأمر ثأرًا متبادلًا استمر لسنوات، رغم أن الإسلام يقول: "وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ" (البقرة: 237).
الإسلام وعلاج العصبية: منهج واضح ومتكامل
لم يترك الإسلام هذا الداء الخطير دون علاج، بل حاربه بكل قوة ووضوح منذ اللحظة الأولى. يقول النبي ﷺ بوضوح لا لبس فيه:
"ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية" (رواه أبو داود).
هذا الحديث الشريف يضع العصبية خارج دائرة الإسلام تمامًا. وفي حديث آخر أشد وأوضح، سُئل النبي ﷺ عن العصبية فقال:
"أن تعين قومك على الظلم" (رواه أبو داود).
أي أن العصبية المذمومة هي أن تنصر أهلك وعشيرتك وهم ظالمون، أو أن تقف معهم في الباطل لمجرد القرابة. أما النصرة بالحق فهي واجب ومأمور بها.
وفي موقف عملي حازم، وقع خلاف بين مهاجري وأنصاري، فنادى المهاجري: "يا للمهاجرين"، ونادى الأنصاري: "يا للأنصار"، فبلغ ذلك النبي ﷺ فخرج مغضبًا وقال: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة" (متفق عليه). سمّاها منتنة! أي كريهة نجسة يجب التبرؤ منها.
وأعظم من هذا كله، قول الله تعالى في القرآن الكريم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" (الحجرات: 13).
هذه الآية العظيمة تهدم العصبية من جذورها: الناس كلهم من أصل واحد (آدم وحواء)، والقبائل والشعوب موجودة للتعارف والتعاون لا للتفاخر والتناحر، والمعيار الوحيد للتفاضل هو التقوى لا النسب ولا اللون ولا القبيلة.
الخلاصة والعبرة: رسالة إلى أهل الصعيد
أيها الإخوة والأخوات في الصعيد الحبيب:
عصبية الجاهلية ليست تراثًا نفتخر به، بل داء نتداوى منه. إنها ليست "أصالة" بل هي جاهلية بامتياز. الأصالة الحقيقية هي في الوقوف مع الحق ولو على النفس، وفي نصرة المظلوم ولو كان من خصومك، وفي قول الحق ولو على أقرب الناس إليك.
في الصعيد كما كان في مكة، العصبية للفرع والعائلة تفرق المجتمع بدلًا من أن توحده، تؤجج الصراعات والفتن، تطمس الحق وتنصر الباطل، تُهدر الدماء والأموال، تحرم الناس من حقوقهم، وتغضب الله عز وجل.
إن المجتمع الصعيدي قادر - بإذن الله - على أن يحتفظ بكل ما هو جميل في تراثه (الكرم، النخوة، الشهامة، الوفاء، الشجاعة، حماية الضعيف، إغاثة الملهوف، احترام الكبير، الحفاظ على الأعراض)، وفي نفس الوقت يتخلص من العصبية المذمومة التي لا تقدم الحق على الباطل.
العبرة الحقيقية والرسالة الختامية:
لنرفع الحق فوق النسب: فالحق أحق أن يُتبع، سواء جاء من قريب أو بعيد، من كبير أو صغير.
ولنضع العدل فوق العصبية: فالعدل أساس الملك، وبه تستقيم المجتمعات وتزدهر، وبالظلم والعصبية تنهار الحضارات.
ولننصر أخانا ظالمًا بأن نمنعه من الظلم: كما علمنا النبي ﷺ، لا بأن نقف معه في ظلمه.
ولنجعل التقوى والأخلاق والكفاءة هي المعيار: لا النسب والقرابة واللون.
ولنتذكر دائمًا: أن العصبية المذمومة من أكبر أسباب الفرقة والشتات، وأن الإسلام جاء ليوحد الناس على الحق والعدل، لا ليفرقهم على الأنساب والقبائل.
إن التخلص من العصبية ليس خيانة للعائلة أو تنكرًا للأصل، بل هو أعظم ما يمكن أن تقدمه لعائلتك ومجتمعك: أن ترفعهم إلى مستوى الحق والعدل والإنصاف، أن تكون قدوة في الإنصاف حتى من نفسك، أن تربي أجيالًا تقدس الحق لا النسب، العدل لا العصبية.
ختامًا، لنتذكر جميعًا قول النبي ﷺ في حجة الوداع، في أعظم خطبة خطبها في أعظم جمع من الناس:
"يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض، إلا بالتقوى. إن أكرمكم عند الله أتقاكم".رواه الإمام أحمد في مسنده (22978)
هذه الكلمات النبوية الخالدة تهدم كل أساس للعصبية، وتضع قاعدة واضحة للتفاضل بين البشر: التقوى فقط، لا النسب ولا اللون ولا القبيلة ولا البلد ولا العائلة.
خطوات عملية للتخلص من العصبية في مجتمعنا
لكي لا يبقى كلامنا مجرد نظريات وعظات، نضع بين أيديكم خطوات عملية واقعية يمكن لكل فرد وأسرة وعائلة في الصعيد أن يطبقها:
1. التربية الأسرية الواعية
ابدأ من بيتك: علّم أولادك منذ الصغر أن الحق فوق كل شيء، وأن العائلة لا تُنصر في الباطل. احكِ لهم قصص الصحابة الذين وقفوا ضد أهلهم نصرة للحق، مثل مصعب بن عمير الذي ترك غنى أهله، وعمر بن الخطاب الذي قاوم عصبية قريش.
2. الشجاعة في قول الحق داخل العائلة
عندما تجتمع العائلة وتتخذ قرارًا ظالمًا أو عصبيًا، كن أنت صوت الحق، حتى لو كنت وحيدًا. قل بأدب ووضوح: "هذا ليس عدلًا، وهذا ليس من ديننا". قد يغضبون منك اليوم، لكنهم سيحترمونك غدًا، وسيتذكرون موقفك عند الله.
3. رفض المشاركة في الظلم
إذا دُعيت لتشهد زورًا، أو للوقوف في نزاع ظالم، أو للتعصب لقريب مخطئ، ارفض بوضوح. قل: "أنا معكم في الحق، لكني لن أكون معكم في الباطل". هذا الموقف الشجاع سيكون بداية التغيير.
4. تكريم المنصفين والشجعان
عندما يقف أحد من العائلة موقفًا منصفًا ضد العصبية، كرّمه وامدحه واجعله قدوة للأجيال. هذا سيشجع آخرين على فعل الصواب.
5. الدعوة إلى الصلح والعفو
كن دائمًا من دعاة الصلح والتسامح، لا من دعاة الانتقام والثأر. ذكّر الناس بفضل العفو وأجره العظيم عند الله، وبأن العفو قوة لا ضعف، وأن الله يحب العافين عن الناس.
6. تغيير معايير الزواج والمصاهرة
عند اختيار الأزواج لأبنائك وبناتك، اجعل الدين والخُلق هما المعيار الأول والأخير، كما أمر النبي ﷺ. قاوم ضغوط العائلة إذا فرضت عليك معايير عصبية. زوّج ابنتك للشاب الصالح ولو كان من عائلة "صغيرة"، وزوّج ابنك من الفتاة الصالحة ولو لم تكن من "الأصول الكبيرة".
7. العدل في الشهادة والقضاء
إذا طُلبت منك الشهادة في نزاع، اشهد بالحق ولو على أقرب الناس إليك. تذكر قول الله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ".
8. نشر الوعي الديني
ادعُ الدعاة والعلماء إلى قريتك ليتحدثوا عن خطر العصبية وحكمها في الإسلام. انشر المقالات والخطب والفيديوهات التي تتحدث عن هذا الموضوع على صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بعائلتك وقريتك.
رسالة أخيرة: لنكن خير خلف لخير سلف
أيها الأحبة في الصعيد المصري الكريم:
لقد كان أسلافنا من الصحابة رضي الله عنهم قدوة في التخلص من العصبية. عمر بن الخطاب الذي كان من أشد المتعصبين لقريش، أصبح بعد الإسلام من أعدل الناس وأبعدهم عن العصبية، حتى أنه قال: "لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًّا لوليته الخلافة" - وسالم كان عبدًا محررًا لا نسب له في قريش! هذا هو الإسلام الحقيقي.
وأبو سفيان بن حرب، الذي حارب النبي ﷺ سنوات طويلة عصبية لبني أمية، عندما دخل الإسلام تخلى عن كل عصبية، وأصبح من المدافعين عن الدين، وقاتل في سبيل الله حتى فقد عينه في معركة اليرموك.
وبلال بن رباح الحبشي، العبد الأسود، رفعه الإسلام حتى أصبح مؤذن رسول الله ﷺ، ورفض النبي ﷺ أن يؤذن أحد غيره في حياته، رغم وجود سادة قريش وأشرافها.
وسلمان الفارسي، الأعجمي من بلاد فارس، قال فيه النبي ﷺ: "سلمان منا آل البيت" - ألحقه بأهل بيته ليس بالنسب، بل بالتقوى والإيمان.
هذه هي القيم التي بنت حضارة الإسلام العظيمة، حضارة لم تُبن على العصبية والقبلية، بل على الحق والعدل والتقوى.
فلنكن نحن اليوم أحفادًا صادقين لهؤلاء الأجداد العظام. لنبني مجتمعًا صعيديًا يحتفظ بكل ما هو جميل في تراثنا (الكرم، الشهامة، النخوة، الشجاعة، الوفاء)، ويتخلص من كل ما هو قبيح (العصبية، التعصب الأعمى، الظلم باسم العائلة، الثأر، التمييز على أساس النسب).
لنكن أقوياء بالحق، لا بالباطل.لنكن أعزاء بالعدل، لا بالظلم.لنكن موحدين بالإيمان، لا مفرقين بالعصبية.
ونختم بدعاء النبي ﷺ الذي كان يقوله: "اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء"مسند أحمد (2/86).
فاللهم أعذنا من العصبية الجاهلية، واجعلنا من أهل الحق والعدل، وألف بين قلوبنا، واجعل محبتنا فيك، وولاءنا لك، ونصرتنا لدينك، لا لأنسابنا وقبائلنا.
اللهم آمين.
"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" (الحجرات: 10)
فلنجعل هذه الأخوة الإيمانية هي الرابط الحقيقي بيننا، فوق كل رابطة دم أو نسب أو قبيلة. فالأخوة في الله أبقى وأعظم وأطهر من كل أخوة.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
بقلم د/محمد شافعين الانصاري
لا تنسوا مشاركة المقال مع أصدقائكم وزيارة المدونة لمزيد من المواضيع الشيقة!