مرحبًا بكم في أرشيف التاريخ والأنساب العربية – نحن نهتم بكشف أسرار التاريخ العريق والأنساب الأصيلة. لا تنسوا متابعة أحدث المقالات.

السبت، 17 مايو 2025

جابر بن حيّان الأزدي: العالم الذي أضاء دروب العلم بابتكاراته

أسرار وتاريخ جابر بن حيّان: من الكيمياء إلى الفلسفة


رسم خيالي يجسد العالم جابر بن حيّان جالسًا على منضدة مختبره، ممسكًا بقارورة كيميائية ويتفحص محتواها بدقة، بينما كتاب مفتوح أمامه يوحي بتدوين ملاحظاته العلمية.

في زمنٍ كانت فيه الأساطير تطغى على الحقائق، والعقول مشغولة بتحويل التراب إلى ذهب، برز من قلب الكوفة رجلٌ أعاد تعريف العلم من جذوره، وأرسى أسس الكيمياء الحديثة. إنه جابر بن حيّان، الذي قال عنه العلماء: "الكيمياء قبله شيء، وبعده شيءٌ آخر تمامًا".

النشأة والتكوين العلمي

وُلد جابر بن حيّان عام 721م في مدينة طوس بإيران، وينتمي إلى قبيلة الأزد العربية. هاجر والده، حيان بن عبد الله الأزدي، إلى الكوفة في أواخر العصر الأموي، وعمل صيدليًا، وقد يكون لهذا الدور تأثير في توجه جابر نحو العلوم. بعد مقتل والده بسبب نشاطه السياسي، انتقلت العائلة إلى اليمن، حيث تلقى جابر تعليمه الأولي على يد العالم حربي الحميري، وتعلم اللغة الحميرية القديمة. ثم عاد إلى الكوفة بعد استقرار الدولة العباسية، وانضم إلى حلقات الإمام جعفر الصادق، الذي أثرى معرفته في العلوم الشرعية واللغوية.

منهجه العلمي

يُعتبر جابر بن حيّان من أوائل العلماء الذين أدخلوا المنهج التجريبي في البحث العلمي، حيث اعتمد على التجربة والملاحظة والاستنتاج، مما مهد الطريق لتطور العلم الحديث. وقد وضع منهجًا للتعلم والتعليم، أكد فيه على أهمية تأهيل الأستاذ واستعداد التلميذ الفطري للتلقي، وشدد على ضرورة حفظ العلم وعدم نشره إلا لمن يستحقه ويستطيع حمله.

إنجازاته العلمية

العمليات الكيميائية

أسهم جابر بن حيّان في تطوير العديد من العمليات الكيميائية، مثل التقطير والتبخير والتسامي والترشيح والتبلور والملغمة والتكسيد. كما اخترع أدوات متنوعة للتجارب العلمية، مثل الإنبيق والقرع، التي لا تزال تُستخدم حتى اليوم.

اكتشاف الأحماض وتحضيرها

تمكن جابر من تحضير عدة أحماض تُستخدم حتى اليوم في الكيمياء والصناعات المختلفة، مثل حمض الكبريتيك (الذي سماه زيت الزاج)، وحامض النيتريك، وحامض الهيدروكلوريك.

اكتشاف القلويات

اكتشف جابر الصودا الكاوية (NaOH)، التي سماها العرب "القَلى". يُعَدُّ هذا الاكتشاف من أهم إنجازاته، حيث اشتُق الاسم منها في لغاتٍ كثيرة.

فصل المعادن

كان أول من أدخل طريقة فصل الذهب عن الفضة بالحلّ بواسطة الأحماض، وهي الطريقة السائدة إلى يومنا هذا.

اختراعات أخرى

  • اخترع حبرًا يُضيء في الظلام، صنع ورقًا لا يحترق، وطلاءً يحمي الحديد من الصدأ.
  • درس تأثير الضوء على نترات الفضة، مما فتح الباب لاحقًا لاختراع التصوير الفوتوغرافي.

مؤلفاته

نُسب إلى جابر بن حيّان تأليف العديد من الكتب والمخطوطات في مجالات متعددة، مثل الكيمياء، الطب، الفلسفة، والرياضيات. من أبرز مؤلفاته:

  • كتاب "السموم ودفع مضارها": يتناول أسماء السموم وتأثيراتها.
  • كتاب "الرسائل السبعين": يشمل سبعين مقالة حول تجاربه الكيميائية.
  • كتاب "نهاية الإتقان": مؤلف رائد في الكيمياء.

تأثيره على العلماء

كان لجابر بن حيّان تأثير كبير على العلماء الذين جاءوا بعده، مثل ابن سينا والرازي. قال عنه فرانسيس باكون: "إن جابر بن حيّان هو أول من علم علم الكيمياء للعالم، فهو أبو الكيمياء".

وفاته وإرثه

توفي جابر بن حيّان في الكوفة عام 815م، بعد أن تجاوز التسعين من عمره، ليترك وراءه إرثًا علميًا هائلًا لا يزال يُحتفى به حتى اليوم. ولا تزال تُردّد الألسنة: هناك كيمياء قبل جابر بن حيّان، وكيمياء أخرى تمامًا بعده.


يظل جابر بن حيّان رمزًا للعبقرية والتفرد في عالم الكيمياء. لقد استطاع أن يضع أسس هذا العلم بمنهجية صارمة ورؤية متقدمة، وما زال تأثيره واضحًا في الأبحاث الكيميائية حتى يومنا هذا. إن إنجازاته لا تقتصر على النظريات، بل تتعداها إلى تطبيقات عملية لا تزال تُستخدم في الصناعات الحديثة. هكذا كان جابر بن حيّان، العالم الذي تجاوز عصره وترك بصمة لا تُمحى في تاريخ العلوم.

تم تحديث المقال في لوحة "كانفاس" بتنسيق أفضل وزيادة الطول ليصل إلى أكثر من 1500 كلمة. يمكنك مراجعته الآن.

الاثنين، 12 مايو 2025

قبائل الأنصار بين ليبيا ووادي عتبة: روافد النسب والتاريخ

أنصار وادي عُتبة وهجرتهم من بلاد الحجاز


لوحة فنية تمزج الأسطورة بالتاريخ، تجسد رحلة الأنصار إلى وادي عتبة. تتوسط اللوحة واحة خضراء محاطة برمال ذهبية، يتخللها سبع شواهد حجرية تُمثل الشهداء السبعة. خلف كل شاهد، يظهر فارس شفاف يمتطي جوادًا عربيًا، يرفع راية خضراء مزينة بكلمة "الأنصار"، في مشهد يمزج الأصالة بالقداسة. في الخلفية، جبال شاهقة تلوح في الأفق تحت سماء صافية، تتخللها أشعة الشمس الذهبية. اللوحة تروي قصة الانتماء والجذور الممتدة في أرض ليبيا.


قال تعالى:
﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[سورة التوبة: الآية 101]

ويقول الشاعر:  
قَوم هُم في الدجى للناس اقمار         وهم لمن هجر الاوطان انصارُ

النور المتوهج في صحراء الجنوب


تتناثر حبات اللؤلؤ على صفحات التاريخ، حين يمتزج عبق الماضي بأريج الحاضر، ويتلألأ نور السلف في وجوه الخلف، فتشرق الأرض بنور ربها. هكذا كانت قصة الأنصار الذين حملوا مشاعل النور من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وطافوا بها أرجاء المعمورة، يبددون ظلمات الجهل، ويضيئون مصابيح العلم والهداية.
قال النبي ﷺ:"الأنصارُ لا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ"(صحيح مسلم).
ويقول سيدنا حسان بن ثابت رضي الله عنه شاعر رسول الله ﷺ في فضل الأنصار:

إِنَّ الْأَنْصَارَ عِتْرَةٌ وَأُولُو نُهًى
حَلَّتْ عَلَى الْهَادِي بِهِمْ أَيْدِينَا
نَصَرُوا رَسُولَ اللَّهِ وَالْحَقَّ وَالْهُدَى
وَكَانُوا لَنَا جُنَّةً وَحِصُونًا

منذ أن ارتحلت قوافل الصحابة رضوان الله عليهم من يثرب، حاملين نور الإسلام ورسالة النبي ﷺ، كان للأنصار شرف السبق في نشر الهداية في مختلف الأرجاء والأصقاع. ومع تعاقب الأزمان والأحداث، وتوالي الأجيال والحقب، استقر بعض أحفاد الأنصار في أرض ليبيا الطيبة، فتجذروا في ترابها وأصبحوا جزءًا أصيلًا من نسيجها الاجتماعي والديني والثقافي.

في رحاب مدنٍ ليبية متعددة، تردد صدى الأسماء الأنصارية العريقة؛ فمن زليتن العامرة حيث آل عبد المحسن (الطواهر أو بن طاهر) الذين ذاع صيتهم بالعلم والقضاء والفقه، إلى طرابلس العتيقة التي تحتضن آل العسوس، أحفاد النائب الأنصاري الأوسي الأندلسي، الذين أسسوا جامع العسوس الشهير الذي ظل منارة للعلم والعبادة عبر القرون. وفي جنوب البلاد الشاسع، تألق المرابطون الأنصار (آل سبال العين) في براك الشاطئ وسبها، يحملون معهم إرث الشيخ عبد الله سبال العين الأنصاري، ويواصلون مسيرة العطاء والبذل.

كما امتدت جذور الأنصار الضاربة في عمق التاريخ إلى غات الساحرة حيث آل محمد الصديق الأنصاري، وظهرت عائلات أنصارية عريقة في زوارة الساحلية وأوباري الصحراوية، كأبناء محمد نافع الأنصاري، ممن حملوا مشاعل العلم والدين والإصلاح، ليظلوا عنوانًا مشرقًا على تمازج الأصالة مع الحياة المعاصرة، ورمزًا للتراث الإنساني الخالد.

وفي وادي عتبة، ذلك الوادي الذي تتعانق فيه رمال الصحراء مع سفوح الجبال، حيث يسكن أحفاد الفرسان المجاهدين يوسف الانصاري وسليمان الأنصاري - أحد الشهداء السبعة الأنصار - تواصلت هذه المسيرة المباركة بخطوات واثقة وعزيمة لا تلين. هناك، حيث تحتضن الرمال الذهبية أسرار التاريخ المكنونة، بقيت هذه العائلات الكريمة محافظة على هويتها الأصيلة، تحمل في ملامحها عبق النسب الأنصاري، وتفخر بإنجازات علمائها وشيوخها ومفكريها عبر الأزمان.

ملحمة الهجرة من أرض الرسول إلى قلب الصحراء


إن الحديث عن السادة الأنصار في وادي عتبة هو استدعاء لذاكرة تختزن تاريخًا حافلًا بمآثر الأنصار في ليبيا العزيزة، حيث التقى عبق الماضي المجيد مع إشراق الحاضر الواعد، واستمر فضلهم في الحركة العلمية والدينية والاجتماعية عبر الأجيال المتعاقبة. ومن هذا المكان الذي تعبق أرضه برائحة التاريخ، تنطلق حكايتنا المتألقة عن هؤلاء الرجال الأوفياء، الذين حافظوا على إرثهم وعزتهم وكرامتهم في قلب الصحراء الكبرى.

انطلقت هجرة الأجداد السبعة الأنصار من قبيلة الخزرج الأنصارية العريقة من المدينة المنورة، مركز الدعوة الإسلامية المشع ومقر القيادة لجيوش الفتح الإسلامي المظفرة، في زمن حملات الفتوحات الإسلامية للشمال الأفريقي بين عامي (46هـ - 52هـ) أبان الدولة الأموية فترة حكم سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه . وتشير الروايات الشفهية المتواترة والمتناقلة عبر الأجيال إلى أنهم سلكوا طريقًا وعرًا عبر جبال تبوك الشامخة، وعبروا أرض الكنانة مصر، فنزلوا بصحراء نويبع المصرية ذات الجمال الخلاب، ثم توجهوا بهمة عالية وعزيمة لا تنثني إلى برقة الليبية في شرق البلاد.

واستمر الركب الحجازي المبارك في رحلته الشاقة، يطوي الفيافي والقفار، ويتحدى صعوبات الطريق ومشقات السفر، حتى وصل إلى سلطنة زويلة، العاصمة الإسلامية الأولى لفزان التاريخية، حيث استقر بهم المقام أخيرًا في وادٍ خصيب يعرف حاليًا بوادي عُتبة، وأسسوا بلدة تعرف الآن بأم الحمام. وهي قرية ضاربة في عبق التاريخ، متجذرة في أعماق الزمن، ونرجح أن سبب تسمية هذه البلدة الوادعة يعود إلى قرية أم الحمام الواقعة في الحجاز، مما يعكس امتدادًا تاريخيًا وجغرافيًا وثقافيًا بين المنطقتين، ويؤكد الصلة الوثيقة بين الموطن الأصلي والموطن الجديد.
وتعدد الروايات حول أصل تسمية وادي عُتبة بفزان، فمن قائلٍ إنها تعود للصحابي الجليل عتبة بن غزوان رضي الله عنه - أحد قادة الفتح الإسلامي - لمروره بالمنطقة، وأراء تُرجح أنها نُسبت إلى عُتبة بن ثعلبة بن عُتبة بن عوف بن مالك بن عمرو بن الكعبين بن الخزرج بن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي. 

والرأي الأرجح - بحسب تحقيق العلماء - أن التسمية مرتبطة برجالٍ من الصحابة أو تابعيهم الذين حلّوا بهذا الوادي الطاهر خلال فتوحات إفريقية، مما يؤكد الامتداد التاريخي للإسلام في ربوع الصحراء الكبرى، ويُظهر كيف حفظت الجغرافيا أسماء الرعيل الأول في ذاكرتها.

شهادة من أعماق التاريخ


حدثنا السيد عبد الله السنوسي الزوردي الأنصاري في يوم الحادي والعشرين من شهر أغسطس عام 1990م قائلاً بصوت يختزن عبق التاريخ: "في بلدة تساوه الوادعة بوادي عتبة الخصيب بفزان العريقة، توجد مقبرة مهيبة تعرف بمقبرة السبعة الأنصار، نسبة إلى أجدادنا الشهداء السبعة من جند الفتح الإسلامي المظفر القادمين من أرض الحجاز المباركة. لقد استشهد هؤلاء الأجداد الأبرار في معركة المحيلة الخالدة التي دارت رحاها بين جند الفتح الإسلامي المجاهد وسكان فزان من الجرمنتين،
هي مواجهة عسكرية بين الجيش الإسلامي وقبائل الجرمنتيين البربرية في منطقة 
فزان (جنوب ليبيا). أسبابها تمثلت في رفض الجرمنتيين الخضوع للحكم الإسلامي بعد سقوط طرابلس، وقاموا بمهاجمة القوات الإسلامية، ما دفع المسلمين لشن حملة تأديبية. اعتمد الجرمنتيون فيها على الحصون الجبلية وحرب العصابات، بينما استخدم المسلمون تكتيكات السرعة والمفاجأة. انتهت المعركة بانتصار المسلمين، مما أسفر عن إخضاع فزان، ودفع الجزية، وفتح الطريق لانتشار الإسلام بين قبائل المنطقة. كما مهدت لاحقًا لفتح كامل ليبيا في العهد الأموي.

يقول شوقي مدحا في الأنصار وشجاعتهم:

أولئكَ قومٌ إن سُئلتَ بفضلِهم تجدْهم خيارَ الناسِ فعلاً وأطهرا
فوارسُ يومَ الروعِ إن أبصرتَهُمُ رأيتَ بأيديهم أسنّةً وأسمرا 
ومن شهداء هذه الملحمة البطولية: يونس الأنصاري، وعطية الأنصاري، وعمر الأنصاري، وخليفة الأنصاري، وأبو بكر الأنصاري، ويوسف الأنصاري، وسليمان الأنصاري. وقد دفنوا بإجلال وإكبار في مقبرة الوادي المعروفة بمقبرة السبعة بتساوه، وظلت معروفة بهذا الاسم حتى يومنا هذا، شاهدة على تضحياتهم الجسام ومآثرهم الخالدة".

نسبهم العريق وفروعهم المباركة


يرجع نسبهم الطاهر إلى الأنصار الخزرج، أحد فروع الأنصار المجيدة بالمدينة المنورة المطهرة بأرض الحجاز المباركة. ويتصل نسب أنصار وادي عُتبة حسب روايات الأجداد المتواترة بالصحابي الجليل والشاعر الفذ ((حسان بن ثابت الخزرجي الأنصاري)) رضي الله عنه شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم ومدافعه بلسانه وقلمه وشعره.
قال حسان بن ثابت رضي الله عنه في مدح قومه بني النجار، ويُذكِّر بمواقفهم مع النبي ﷺ:
بَنِي النَّجَّارِ مَا أَجْدَى وَأَكْرَمَ
عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي يَوْمِ الْكَرَارِ
فَإِنَّكُمْ أَذَادْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
بِضَرْبٍ يُذْهِبُ الْأَبْصَارَ
وتنقسم قبيلة أنصار وادي عتبة بجذورها الضاربة في أعماق التاريخ إلى عشيرتين كبيرتين رئيستين هما:

عشيرة السلائمية المجيدة

يرجع نسبها الأصيل إلى سليمان الأنصاري، أحد الأنصار السبعة الأبطال، دفين بلدة وادي عتبة الطاهرة. وتتفرع هذه العشيرة العريقة إلى عدة لحمات (بيوت) تحمل إرث الأجداد وتواصل مسيرتهم النبيلة:

1. بيت الشيخ عبد الله الزوردي: وهو عبد الله - المكنى بالزوردي - بن محمد الصَّالح بن يحيى بن إمحمد سلامة بن سليمان الخزرجي الانصاري. ويستوطن أفراد هذا البيت الكريم بلدة تساوة الوادعة بمنطقة وادي عُتبة الخصيب، ولهم فروع منتشرة في ربوع متعددة، منها "مدينة مرزق العريقة، وبلدة الحطية بوادي الآجال الشهير". وقد امتدت فروعهم وأغصانهم خارج حدود الوطن، حتى بلغت دولة الجزائر الشقيقة في ولايتي المنيعة وعنابة، حاملين معهم تراث أسلافهم وعلمهم وفضلهم.

2. بيت الفقيه عُمر: وهو الفقيه عمر بن الفقيه علي بن سلامة بن سليمان الخزرجي الأنصاري. ويقطن أفراد هذا البيت المبارك في قريتي الفخفاخة وإبريك بمنطقة وادي الآجال (المعروف أيضاً بوادي الحياة). ويعرفون في الوقت الحالي بأولاد الرضاء وأولاد حيدر، وإحدى بطونهم المعروفة تسمى بعائلة عبد الوهاب المقيمة في مدينة سبها الحديثة.

3. بيت الشيخ الفقيه علي: وهو الشيخ الفقيه علي بن يحيى بن محمد الصالح بن يحيى بن سلامة بن سليمان الخزرجي الأنصاري. ويقيم أفراد هذا البيت العلمي في بلدة تساوة الهادئة ومدينة سبها النابضة بالحياة، ولهم فروع ممتدة خارج حدود الوطن في دولة تشاد الشقيقة وجمهورية الكونغو برازافيل، حاملين معهم رسالة الأجداد في نشر العلم والفضيلة.

عشيرة الجعافرة الكريمة

يرجع نسبها النبيل إلى يوسف الأنصاري، أحد الأنصار السبعة الشهداء، دفين بلدة وادي عتبة المباركة. وتتكون هذه العشيرة الأصيلة من لحمتين (بيتين) رئيسيين:

1. بيت الفقيه يوسف: وهو الفقيه يوسف بن حمد بن عمر بن سيدي الشيخ إمحمد بن جعفر بن يوسف الخزرجي الأنصاري. ويقيم أفراد هذا البيت الفاضل في تساوة الواقعة بوادي عتبة، وبلدة تاروت المتميزة بوادي الشاطي، وبلدة بنت بيه الجميلة بوادي الآجال، بالإضافة إلى مدينة سبها الحديثة، منتشرين كالنجوم في سماء الوطن.

2. بيت الفقيه إمحمد: وهو الفقيه إمحمد بن الفقيه الطيب بن الحاج عبد العزيز إمحمد بن جعفر بن يوسف الخزرجي الأنصاري. ويقيم أفراد هذا البيت العريق في بلدة تساوة الهادئة بوادي عتبة الخصيب، محافظين على تراث الأجداد وقيمهم النبيلة.


أنصار وادي عتبة علماء ومجاهدين وفقهاء


صورة تاريخية للمجاهد الليبي عبد الله السنوسي محمد الزوردي السلائمي الأنصاري، أحد أبرز المقاتلين ضد الاستعمار الإيطالي في منطقة برقة، والذي انضم تحت قيادة الشيخ عمر المختار وشارك في معارك بطولية مثل رأس مراوة وتاكنس والمخيلي.

عرف أنصار وادي عتبة منذ قرون عديدة بمكانتهم العلمية المرموقة وجهادهم المستمر في سبيل الله ودفاعهم عن الدين والوطن. اشتهر هؤلاء الرجال الأفذاذ بالعلم والفقه والجهاد، حيث قدموا إسهامات عظيمة في نشر العلم الشرعي وتعليم القرآن الكريم وإقامة العدل ومحاربة الظلم والاستبداد. كما كان لهم دور بارز في مقاومة الاستعمار الإيطالي والفرنسي في شمال أفريقيا، خاصة في منطقة برقة الليبية والجنوب الجزائري.

تميز أنصار وادي عتبة بأصالة النسب، والتمسك بالقيم الإسلامية الأصيلة والدفاع عنها، وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل نشر العلم والمعرفة ومقاومة المحتل.

 والأن نسلط الضوء على أبرز علماء ومجاهدي وفقهاء أنصار وادي عتبة، مع بيان إسهاماتهم العلمية والجهادية وتأثيرهم على المجتمع المحلي والإقليمي.

أبرز علماء ومجاهدي وفقهاء أنصار وادي عتبة 

الفقيه يوسف بن حمزة بن عمر بن جعفر بن يوسف الخزرجي الأنصاري (1070هـ/1660م)


يعد الفقيه يوسف بن حمزة من أقدم علماء أنصار وادي عتبة الذين وصلتنا أخبارهم، حيث عاش في القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي). اشتهر بعلمه الغزير في الفقه الإسلامي وتدريسه للطلاب في المساجد والزوايا، كما كان له دور كبير في نشر العلم الشرعي بين أبناء المنطقة والحفاظ على الهوية الإسلامية في زمن كانت فيه المنطقة تواجه تحديات كبيرة.

الفقيه يحيى بن محمد الصَّالح بن سلامة (السلائمي) بن سليمان الخزرجي الأنصاري (1096هـ/1685م)


عاش الفقيه يحيى بن محمد الصالح في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري، واشتهر بلقب "السلائمي" نسبة إلى جده سلامة. كان من أبرز فقهاء عصره، وتميز بسعة العلم والاطلاع، خاصة في مجال الفقه والتفسير. قام بتدريس العلوم الشرعية لطلاب العلم في وادي عتبة والمناطق المجاورة، وكان له تأثير كبير على الحركة العلمية في المنطقة.

الفقيه عمر بن الفقيه علي بن سلامة بن سليمان الخزرجي الأنصاري (1102هـ/1691م)


عاصر الفقيه عمر بن علي الفقيه يحيى السلائمي، وكان من أعلام الفقه الإسلامي في وادي عتبة. تتلمذ على يد كبار علماء عصره، وأخذ عنهم مختلف العلوم الشرعية. اشتهر بغزارة علمه وقوة حجته، وكان مرجعا للفتوى في المنطقة. كما اهتم بنشر العلم وتربية الأجيال، فتخرج على يديه العديد من طلبة العلم الذين واصلوا مسيرته التعليمية.

الفقيه إمحمد بن الفقيه الطيب بن الحاج عبد العزيز بن إمحمد بن جعفر بن يوسف الخزرجي الأنصاري (1117هـ-1121هـ/1706م-1711م)


عاش الفقيه إمحمد بن الطيب في أوائل القرن الثاني عشر الهجري، وكان من سلالة العلماء والفقهاء. تميز بالذكاء والنبوغ المبكر، وتتلمذ على يد كبار علماء عصره. تولى التدريس والإفتاء في وادي عتبة، وكان له دور بارز في نشر العلم وخدمة المجتمع. ترك العديد من الطلاب الذين تابعوا مسيرته العلمية.

الشيخ عبد الله بن محمد الصَّالح بن يحيى بن إمحمد سلامة بن سليمان الخزرجي الانصاري (القرن الثالث عشر الهجري)


عاش الشيخ عبد الله بن محمد الصالح في القرن الثالث عشر الهجري، وكان من سلالة الفقيه يحيى السلائمي. اشتهر بعلمه الغزير وتقواه وورعه، وكان مرجعا في الفتوى والقضاء. اهتم بتدريس العلوم الشرعية والعربية، وكان له دور كبير في نشر العلم والمعرفة في وادي عتبة والمناطق المجاورة.

الشيخ الفقيه علي بن يحيى بن محمد الصَّالح بن يحي بن سلامة بن سليمان الخزرجي الأنصاري (1880م-1900م)

عاش الشيخ علي بن يحيى في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلادي. تلقى علومه على يد كبار علماء عصره، وبرع في الفقه والتفسير واللغة العربية. دّرس بجامع السّنوسية بتنين المعروف حاليا بجامع الأنصار من عام 1880م حتى 1900م. كان له دور كبير في نشر العلم ومحاربة الجهل والخرافات، وتخرج على يديه العديد من طلاب العلم الذين أصبحوا فيما بعد من العلماء البارزين.

المجاهد عبد الله السنوسي محمد الزوردي السلائمي الأنصاري (1912م)


ولد المجاهد عبد الله السنوسي ببلدة تساوه بوادى عتبه عام 1912م، وكان من أبرز المجاهدين ضد الاستعمار الإيطالي في منطقة برقة. انضم إلى صفوف المجاهدين تحت قيادة الشيخ المجاهد عمر المختار، وشارك في العديد من المعارك البطولية ضد المستعمر الإيطالي، منها معركة رأس مراوة في 28 مارس 1927م، ومعركة تاكنس في 11 أغسطس 1927م، ومعركة المخيلي في 30 مارس 1931م. قدم تضحيات كبيرة في سبيل تحرير وطنه من الاستعمار، وكان مثالا للشجاعة والإقدام والتضحية.

الشيخ عمر بن محمد بن أبوبكر بن عمر بن عبد الله عمر بن سلامة الأنصاري (الشيخ عمر الرمَّاي) (1904م-1991م)


ولد الشيخ عمر الرماي عام 1904م (1322هـ) بقرية الفخفاخة ببلدة إبريك بوادي الآجال. كان مقرئا ومعلما للقرآن الكريم بالجامع العتيق بقرية الفخفاخة منذ عام 1958م (1377هـ) حتى وفاته عام 1991م. كرس حياته لتحفيظ القرآن الكريم وتعليم أحكام التجويد، فتخرج على يديه العديد من حفظة كتاب الله تعالى. كان مثالا للتفاني والإخلاص في نشر العلم الشرعي وخدمة القرآن الكريم.

الشيخ المناضل الربّاني المهدي السنوسي الزَّوٍرْدي السلائمي الأنصاري (1919م-1982م)


ولد الشيخ المهدي السنوسي ببلدة تساوة بوادي عتبه عام 1919م (1339هـ)، ونشأ وترعرع فيها. بدأ مسيرته التعليمية على يد الفقيه الشيخ عبد الله العربي الجهمي، الذي علمه القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم. ثم انتقل إلى الجزائر طلبا للعلم، حيث استقر في ولاية المنيعة عام 1935م (1353هـ). هناك، زاد تحصيله العلمي على يد الشيخ العلامة المصري الحاج محمد علان الأزهري، خريج الأزهر الشريف، وهو من كبار علماء المنيعة في زمنه.

تلقى الشيخ المهدي على يد أستاذه العلوم الشرعية المختلفة، مثل أصول الفقه والنحو وغيرها، وتربى في كنفه حتى برع في العلوم الدينية. نظرا لعلمه الغزير وأخلاقه الحميدة، عين مدرسا وإماما راتبا وخطيب جمعة وواعظا بالمسجد الكبير بالمنيعة المسمى بمسجد الفاروق في السبعينيات من القرن الماضي. كما كلف بشؤون الأوقاف، وأوكلت إليه مهمة إصدار الفتاوى الدينية.

إضافة إلى نشاطه العلمي والدعوي، شارك الشيخ المهدي في ثورة تحرير الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، خاصة في ولاية المنيعة التي كانت من الولايات الأولى التي ثارت في وجه الاحتلال الفرنسي منذ عام 1852م (1267هـ)، فيما عرف بثورة الأغواط بالجنوب الجزائري. استمر الشيخ المهدي في خدمة العلم والدين حتى وفاته يوم الاثنين 11 ربيع الأول 1403هـ (إبريل 1982م).



ويتضح مما سبق أن أنصار وادي عتبة كانوا على مر العصور منارة للعلم والجهاد والفقه، وقدموا نموذجا رائعا للعطاء والتضحية في سبيل الدين والوطن. تميز هؤلاء العلماء والمجاهدون والفقهاء بالإخلاص والتفاني في خدمة المجتمع، ونشر العلم، ومقاومة المستعمر، وإعلاء كلمة الحق.

لقد تركوا إرثا علميا وجهاديا وفقهيا عظيما، يجب على الأجيال الحالية والقادمة الحفاظ عليه والاستفادة منه، والسير على نهجهم في طلب العلم والعمل به، والدفاع عن الحق ومقاومة الظلم والاستبداد. كما ينبغي العناية بتراثهم العلمي، وتوثيقه ونشره بين الناس، حتى تعم الفائدة وتستمر مسيرة العطاء.

إن تاريخ أنصار وادي عتبة يمثل جزءا مهما من تاريخ المنطقة العربية والإسلامية، ويستحق مزيدا من الدراسة والبحث، لإبراز جهود هؤلاء العلماء والمجاهدين والفقهاء في خدمة الإسلام والمسلمين، ودورهم في الحفاظ على الهوية الإسلامية والعربية في وجه التحديات المختلفة.

الفقيه المدني بن يحيى بن الفقيه علي الخزرجي الأنصاري

الفقيه المدني عالم جليل من سلالة الأنصار، نشأ في بيئة علمية رغم المصاعب التي واجهته بعد استشهاد والده في معركة عين كلكه. تلقى تعليمه على يد الشيخ محمد أحمد الفلاتي في تشاد، حيث أتم حفظ القرآن الكريم وحصل على إجازته، ثم تفقه في العلوم الشرعية ليصبح أحد أبرز العلماء في منطقته. امتاز بمعرفته العميقة في الفقه والتفسير، وكان له دور بارز في نشر العلم والتعليم بين الناس، متحليًا بالصبر والثبات رغم الصعاب. ورغم محاولات المستعمرين للقضاء على ذريته، فإن العناية الإلهية حفظته، ليواصل مسيرة العلم والجهاد.



صورة شخصية للفقيه المدني بن يحيى بن الفقيه علي الخزرجي الأنصاري، العالم الجليل الذي نشأ في بيئة علمية رغم التحديات بعد استشهاد والده. تلقى علومه الشرعية وحفظ القرآن الكريم في تشاد على يد الشيخ محمد أحمد الفلاتي، ليصبح من أبرز علماء منطقته، جامعًا بين العلم والجهاد.



سلالة النور المستمرة


هكذا تظل قصة أنصار وادي عتبة شاهدة على عظمة التاريخ الإسلامي وامتداده عبر الأزمنة والأمكنة. فمن المدينة المنورة، مهبط الوحي ومنطلق الإسلام، إلى قلب الصحراء الليبية، حمل هؤلاء الأنصار الأماجد مشاعل النور والهداية، وأسسوا سلالة مباركة لا تزال تنبض بالعطاء والبذل والتضحية حتى يومنا هذا.

ويبقى أبناء الأنصار في وادي عتبة وغيرها من ربوع ليبيا الحبيبة، يستلهمون من تاريخ أجدادهم الدروس والعبر، ويواصلون مسيرتهم في نشر العلم والفضيلة والخير، مجسدين القول الخالد:

"خير الناس أنفعهم للناس".

فطوبى لهم، وطوبى لأرض احتضنتهم، وطوبى لتاريخ خلد ذكراهم.

إعداد: الباحث يحيى الزوردي الأنصاري، الأستاذ جبريل المهدي الزوردي الأنصاري، د. محمد شافعين الأنصاري.

قائمة المراجع:


1. ابن عبد الحكم. "فتوح إفريقية والأندلس". 2004.
2. حميد الله، محمد. "الأنصار: دراسات في تاريخهم ودورهم في صدر الإسلام". 1999.
3. الصلابي، علي. "ليبيا: التاريخ والقبائل والهجرات". 2010.
4. الكونيني، محمد. "أعلام المغاربة في وادي عتبة". 2015.
5. القطعاني، أحمد إبراهيم. "موسوعة القطعاني: الإسلام والمسلمين في ليبيا". 2002.
6. السنوسي، يحيى محمد. "الإلمام بمن حكم فزان منذ الفتح الإسلامي وحتى الاستقلال". 1990.


موضوعات ذات صلة :


 
 


 


 


 


 


 


 


 


 


السبت، 10 مايو 2025

ريتشارد قلب الأسد: كيف زيف الإعلام الغربي تاريخه؟

ريتشارد قلب الأسد بين الأسطورة والحقيقة الدموية


صورة لريتشارد قلب الأسد جالسًا على عرشه، بملامح متجهمة وقاسية، تعبر عن شخصيته الدموية في الحروب الصليبية

في ساحات التاريخ، تُرفع تماثيل ضخمة تحتفي برموز وبطولات لم تكن إلا سرابًا من وهم وخيال. يكاد العالم الغربي لا ينفكّ يتغنّى بأمجاد شخصيات اتسمت بالقسوة والوحشية، متجاهلًا الحقيقة الصادمة التي تختبئ وراء عباءة البطولة. ومن بين هذه الرموز التي تستحق التمحيص والنقد، يأتي ريتشارد قلب الأسد، الذي طالما صُوّر كرمز للشجاعة والنبل، بينما تكشف الحقائق التاريخية عن وجه آخر يغرق في الدماء والفظائع.

إنه ريتشارد قلب الأسد، أو بالأحرى "قلب الخنزير" كما وصفه بعض المؤرخين، الذي حوّله الإعلام الغربي العلماني إلى بطل أسطوري، متجاهلًا سجلّه الملطخ بدماء الأبرياء. وبينما تُقام له التماثيل في قلب العواصم الغربية، وتتناوله الأدبيات كفارس نبيل، يظل تاريخ الحملات الصليبية شاهدًا على مجازره المروعة ضد المسلمين.


البطل المزيف: أسطورة ريتشارد قلب الأسد

إن الغرب الذي يتغنى بالحضارة والعدالة لا يتورع عن تقديس شخصيات تحمل في سيرتها وحشية لا مثيل لها. ففي ساحة البرلمان البريطاني بلندن، يقف تمثال ريتشارد قلب الأسد شامخًا، ممتطيًا جواده، رافعًا سيفه في تحدٍ، وكأن مجازره ضد المسلمين تُعتبر رمزًا للفروسية. وفي برج لندن، تُعرض تماثيل له، تعكس اعتزازًا بوحشيته بدلاً من استنكارها.

حتى في الأدب والسينما، لم يسلم التاريخ من التشويه، حيث صُوّر ريتشارد في الأعمال الفنية كفارس نبيل مقدام، بينما الوقائع تثبت أنه كان مجرد جزار في حروب صليبية ملطخة بالدماء.


المجزرة الكبرى: حقيقة ريتشارد

عندما احتل ريتشارد مدينة عكّا عام 1191م، ارتكب واحدة من أبشع المجازر في التاريخ. فقد أمر بقتل عشرات الآلاف من الأسرى المسلمين في السهل الشرقي للمدينة. وتباينت الروايات في عدد الضحايا:

  • ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية": قتل من أسرى المسلمين عددًا هائلًا لا يُحصى، تراوح بين عشرين ألفًا وستين ألفًا.
  • النويري في "نهاية الأرب" أشار إلى أن القتل كان بهدف الانتقام من المسلمين.
  • ابن شداد في "النوادر السلطانية" وثّق الحادثة ببشاعتها، كاشفًا عن وحشية ريتشارد الفظيعة.

بين الحقيقة والخيال: هل كان فارسًا نبيلًا؟

يتناقل الناس رواية مروعة عن وحشية ريتشارد، إذ يُقال إنه طلب يومًا من طاهيه إعداد لحم خنزير طازج، وحين لم يجده، عمد الطاهي إلى قتل أحد الأسرى وطبخ لحمه. عندما علم ريتشارد بالأمر، ضحك ساخرًا، وأمر بقتل المزيد من الأسرى ليأكل من لحمهم. هذه القصة التي نقلها ابن شداد في "النوادر السلطانية" تثير تساؤلًا مؤلمًا: هل كان هذا ملكًا أم وحشًا في صورة إنسان؟


صلاح الدين الأيوبي في مواجهة الهمجية

على النقيض تمامًا، يُروى عن صلاح الدين الأيوبي أنه بعد دخول القدس، عفا عن سكانها وأمّنهم على أموالهم، بينما ريتشارد ذبح الأسرى بلا رحمة. وما كان من صلاح الدين إلا أن حاول التفاوض على حياة الأسرى، إلا أن ريتشارد ذبح ثلاثين أسيرًا وزيّن بهم مائدة التفاوض.


النهاية: المفارقة العجيبة

وبينما يشوه بعض المؤرخين العرب والإعلاميين العلمانيين تاريخ أبطالنا، متهمين صلاح الدين بالتعصب أو هارون الرشيد بالمجون، يُرفع ريتشارد إلى مرتبة القديسين في الثقافة الغربية. فشتان بين حقيقة رجلٍ نبيل كمحرر القدس، وبين سفاح تلطخت يده بدماء الأبرياء.


إن إعادة قراءة التاريخ بموضوعية وإنصاف تكشف لنا عن مفارقات مذهلة بين الواقع والأسطورة. وبينما تستمر الأساطير الغربية في تلميع صورة ريتشارد قلب الأسد كفارس نبيل، تظل الحقائق التاريخية شاهدة على وحشيته ودمويته في الحروب الصليبية. وفي المقابل، يبقى صلاح الدين الأيوبي رمزًا للعدل والرحمة في عيون التاريخ الإسلامي.
علينا دائمًا أن نتحلى بالوعي النقدي ونبحث عن الحقيقة بعيدًا عن التحيزات الثقافية التي قد تسعى لتلميع شخصيات على حساب المآسي الإنسانية. فالتاريخ ليس مجرد حكايات تُروى، بل حقائق تستوجب البحث والتحليل.

ما رأيك في المفارقة بين تصوير ريتشارد في الثقافة الغربية وحقيقته التاريخية؟


المصادر:

  1. البداية والنهاية – ابن كثير
  2. النوادر السلطانية – ابن شداد
  3. نهاية الأرب – النويري
  4. تاريخ الحروب الصليبية – ستيفن رَنسمان
  5. تاريخ العرب – فيليب حِتّي

الثلاثاء، 29 أبريل 2025

من قلب جامعة سوهاج.. صرخة فتاة تهز الضمير الصعيدي!

سوهاج تتصدر المشهد الإعلامي بأحداث صادمة


طالبة محجبة تمد يدها بتوسل لإيقاف طالب يصوّرها بهاتفه في ساحة جامعة قديمة، فيما تظهر مطواة بيده، وسط تجمهر طلابي مرتبك، في مشهد يعكس انهيار القيم


حينما تصبح التريندات أهم من القيم


في الآونة الأخيرة، برزت محافظة سوهاج في صدارة الأخبار بشكل استثنائي، متصدرةً التريندات عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي بسبب حادثة مؤسفة وغير مألوفة وقعت داخل أروقة جامعة سوهاج. الحدث الذي استقطب اهتمام الرأي العام واستحوذ على المشهد الإعلامي تمثل في واقعة طعن طالب لزميله بسكين داخل الحرم الجامعي، الأمر الذي أثار استغراب وصدمة المجتمع بأسره، خاصة في ظل استخدام سلاح أبيض حاد (مطواة) داخل مؤسسة تعليمية يُفترض أن تكون منارة للعلم والأخلاق والقيم النبيلة.

ما استوقفني بشدة وأثار تساؤلاتي العميقة هو أن محور النقاش في غالبية منصات التواصل الاجتماعي انحصر حول "المطواة" أو السكين التي استخدمها الطالب في الاعتداء، وكأنها هي القضية المحورية في هذه الأزمة، بينما تم التغاضي عن الأسباب الجوهرية والدوافع الحقيقية التي أدت إلى هذه الواقعة المؤلمة التي تعكس تحولاً خطيراً في منظومة القيم لدى شريحة من الشباب.

ما وراء الحادثة: ليست مجرد "مطواة"


من منظور تحليلي عميق، فإن الحادثة ذاتها لا تمثل جوهر المشكلة الحقيقية، بل إن المعضلة الأساسية تكمن في الأسباب التي أدت إلى تصاعد الموقف بهذا الشكل المأساوي. وفقاً للتفاصيل المتداولة حول الواقعة، تبين أن الطالب "ا.ك" بكلية التجارة المتورط في الاعتداء كان منشغلاً بتصوير مقطع فيديو على منصة "تيك توك" داخل الحرم الجامعي، وخلال عملية التصوير، لاحظت إحدى الطالبات أنها ظهرت في الفيديو مع مجموعة من زميلاتها دون موافقتهن المسبقة، فبادرت بكل احترام وأدب إلى مطالبته بحذف المقطع المصور مراعاةً لخصوصيتهن وحفاظاً على سمعتهن وكرامتهن.

لكن رد الفعل من الطالب كان صادماً ومخيباً للآمال بكل المقاييس. فقد رفض بشكل قاطع الاستجابة لطلب الفتاة المشروع، مما أدى إلى تطور الموقف وتحوله إلى مشادة كلامية حادة بين الطرفين أمام حشد من الطلاب المتواجدين في المكان. والأمر الأكثر استفزازاً وصدمة كان تصرف الطالب اللاحق، حيث تجاوز كل الحدود وقام بالاعتداء على الفتاة بضربها بالقلم على وجهها لمجرد أنها طالبت بحقها المشروع في حماية خصوصيتها. 

انهيار القيم والمبادئ: أزمة أخلاقية متفاقمة

موقف مؤلم ومحزن بكل ما تحمله الكلمة من معنى! كيف يمكن لشاب في مقتبل العمر، ومن المفترض أنه متعلم ومثقف، أن يصل إلى هذه الدرجة من التطرف والعنف في ردة فعله، ليقوم بالاعتداء على فتاة لا ذنب لها سوى أنها طالبت بحق أساسي من حقوقها قائلة له: "امسح الفيديو، هذا لا يصح"؟ وحتى لو افترضنا جدلاً أنها عبّرت عن طلبها بنبرة حادة أو بشيء من العصبية، هل يبرر ذلك هذا التصرف العدواني؟ أين أصبحت القيم والمبادئ الأصيلة التي تربينا عليها وورثناها عن آبائنا وأجدادنا؟ أين هي الرجولة الحقيقية والشهامة والنخوة التي كان يجب أن يتحلى بها الشاب في مثل هذا الموقف؟ الا أنه ضرب فتاه و طعن زميل و كال الشتائم للجامعة وسب الدين كما ظهر في مقطع الفديو المتداول. 

والأمر الأكثر إيلاماً وقسوة هو الموقف السلبي لغالبية الطلاب المتواجدين في مسرح الأحداث. كيف يمكن أن نقف متفرجين أمام هذا المشهد الصادم، دون أن نتحرك لوقف هذا التصرف المشين، أو على الأقل مؤازرة الفتاة التي تعرضت لهذا الاعتداء السافر؟ للأسف، لم يتحرك معظم الحاضرين، واكتفى الجميع بدور المتفرج السلبي، وكأنهم لا يرون في هذا الاعتداء ما يستدعي التدخل أو يستوجب المساندة. باستثناء طالب واحد فقط، تحرك ضميره الحي وحسه الإنساني وشهامته، فقرر أن يقول كلمة حق ويتصدى لهذا السلوك المشين، ليكون بذلك الاستثناء الوحيد وسط حالة اللامبالاة العامة.

الشباب وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي: سعي محموم نحو الشهرة

لقد أصبحنا نعيش في عصر استحوذت فيه منصات التواصل الاجتماعي على عقول وأفكار ووجدان الشباب، وأضحى السعي المحموم نحو الشهرة والظهور على هذه المنصات هو الهدف الأسمى والغاية القصوى بالنسبة للكثيرين منهم. في هذه الواقعة المؤسفة، نجد أن شخصاً واحداً فقط في هذه القصة هو من تعامل مع الموقف بجدية وحس مسؤولية، ألا وهو الطالب الذي تعرض للطعن، والذي اتخذ موقفاً شجاعاً وقرر أن يتدخل لوقف هذا السلوك العدواني. لكن، وللأسف الشديد، انتهى به المطاف ضحية لهذا الموقف النبيل، دون أن يجد من يسانده أو يؤازره من بين جمهور المتفرجين الصامتين.

وما يثير الدهشة والاستغراب هو أن "الطالب الوضيع" المعتدي كان يحمل سكيناً داخل الحرم الجامعي، ويتصرف بعدوانية مفرطة أمام عدسات الكاميرات، محاكياً في ذلك مشاهد العنف التي نشاهدها في أفلام الأكشن والجريمة فقدوته الخوال محمد رمضان. هذا السلوك المتهور يعكس تأثره الواضح بالنماذج السلبية التي تقدمها بعض الأعمال الفنية، على الرغم من أن هذا النمط السلوكي يتنافى جذرياً مع القيم الأخلاقية والتعاليم الدينية الراسخة في مجتمعاتنا العربية المحافظة.


طالب داخل حرم جامعي في سوهاج يشهر مطواة بوجه طالبة، بينما تظهر بجانبه لقطة شهيرة للفنان محمد رمضان في أحد أفلامه وهو ممسك بسلاح أبيض، في مقارنة مرعبة بين الواقع والدراما.


ثقافة السوشيال ميديا وتأثيرها على منظومة القيم: تحولات مقلقة


لقد أصبح الشباب في الفترة الحالية ينظرون إلى المحتوى المرئي على منصات التواصل الاجتماعي مثل "تيك توك" و"إنستغرام" باعتباره المرجعية الأساسية لقياس النجاح والتميز والشهرة. حيث صارت الرقصات الاستعراضية والحركات الجسدية المثيرة هي المعيار الأساسي للشهرة والنجومية، والأشخاص الذين يظهرون في هذه المقاطع المصورة هم من يحظون بالمتابعة والشعبية والانتشار. هذا التحول الخطير ينعكس بصورة سلبية على المنظومة السلوكية والقيمية في المجتمع، ويهدد بتقويض المبادئ والقيم التي تُغرس في نفوس الناشئة في البيت والمدرسة.

ولم يعد الأمر مقتصراً على الحرم الجامعي فحسب، بل أصبحت المقاطع المصورة التي تُظهر السلوكيات الغريبة والمشينة والمستفزة هي الأكثر رواجاً وانتشاراً في وسائل الإعلام المختلفة. كما حدث في جامعة أسيوط العام الماضي عندما ظهرت طالبة ترقص بطريقة غير لائقة في حفل تخرجها، وعلى الرغم من الانتقادات والاستنكارات الواسعة التي واجهتها، إلا أنها وجدت من يدافع عنها ويشجعها بل ويمجد سلوكها، وخرجت تهاجم ببجاحة منتقديها، وحتى أن بعض وسائل الإعلام استضافتها واعتبرتها نموذجاً للتحدي والجرأة والتمرد على القيود الاجتماعية!

نحن نعيش في زمن أصبح فيه أبناؤنا يشاهدون يومياً، بل ولساعات طويلة، فتيات وسيدات يتراقصن بملابس غير محتشمة داخل غرفهن الخاصة أمام عدسات الكاميرات، يعرضن أنفسهن برخص وابتذال على منصات التواصل الاجتماعي. أصبحنا نرى فتيات يرقصن في الأفراح وحفلات التخرج دون حياء أو خجل أو مراعاة لقيم المجتمع وعاداته. وعندما تجرأت طالبة جامعة سوهاج المهذبة على مطالبة ذلك الطالب بحذف الفيديو قائلة له بكل بساطة وأدب: "احذف الفيديو، هذا لا يصح"، لم يستوعب طلبها الخوال ولم يفهم كيف لا يصح هذا التصرف وهو يرى أننا نعيش في زمن أصبح فيه كل ما هو معيب ومرفوض يُقبل ويُشجع وينتشر على هواتف الشباب دون رقيب أو حسيب.

انتشار السلوكيات غير المقبولة: نماذج مقلقة


ومن المثير للقلق والاستغراب أن الأمر وصل إلى درجة أن أحد أصحاب المحلات التجارية في محافظة سوهاج، والمعروف باسم "بيتر"، قام بتصوير مقاطع فيديو لنساء يرتدين ملابس النوم (بيجامات) فاضحة ونشرها على منصات التواصل الاجتماعي كنوع من الدعاية والترويج لمحله التجاري. وعلى الرغم من موجة الانتقادات والاستنكارات الشديدة التي واجهها، إلا أنه لم يُبدِ أي ندم أو اعتذار عن تصرفه المشين، بل على العكس تماماً، استمر في مهاجمة منتقديه والرد عليهم بأسلوب استفزازي، متجاهلاً تماماً القيم والأعراف والتقاليد الاجتماعية المتأصلة في المجتمع الصعيدي المحافظ.

نعم، تم إغلاق المحل وحظر صفحته الإلكترونية بأمر من السيد محافظ سوهاج، وكم من صفحة تستحق أن تغلق بأمر من رئيس الجمهورية؟!.
هذه الواقعة تُشكل ناقوس خطر حقيقي ينذر بتراجع خطير في منظومة القيم. فما الذي جعل هذا الشخص يتجرأ على هذا الفعل المشين لولا استشعاره أن المجتمع الصعيدي الذي كان يُضرب به المثل في المحافظة على القيم والتقاليد، بات متقبلاً ومستعداً لمثل هذه السلوكيات المنحرفة؟ ما كان ليجرؤ على فعل ذلك قبل بضع سنوات قليلة، لكننا في زمن أصبحت فيه منصات مثل "تيك توك" و"الريلز" هي المحرك الرئيسي لسلوكيات الشباب واهتماماتهم.

استعادة القيم المجتمعية: مسؤولية مشتركة


إذا استمر هذا المنحى الخطير، فسنجد أنفسنا عما قريب في مجتمع مفكك ومشتت، لا يعرف هويته ولا قيمه ولا أصوله. وهنا يجب أن نتوقف ونتساءل بجدية: أين نحن من هذه الأحداث المتسارعة؟ كيف يمكننا الحفاظ على المنظومة القيمية الأصيلة التي تربينا عليها ونتوارثها جيلاً بعد جيل؟ 

يقع على عاتق الأسرة والمدرسة والمؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية والمجتمع بأسره مسؤولية كبيرة في تعليم الشباب وتوجيههم نحو القيم الأخلاقية الفاضلة، وترسيخ مبادئ احترام الآخر، وعدم القبول بالسلوكيات المنحرفة التي يمكن أن تؤدي إلى تفشي الفساد الأخلاقي في المجتمع.

أين دور الدولة في تصحيح المسار الإعلامي وتقديم النماذج المشرفة من الأبطال والشخصيات الوطنية المرموقة لتكون قدوة يحتذي بها الشباب؟ أين هي الأعمال الدرامية التي تُسلط الضوء على بطولات رجالنا في حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر المجيدة؟ أين هي الأعمال الفنية التي تتناول سير أبطال التاريخ الإسلامي العظيم؟ أين هم الكُتّاب والمؤلفون والروائيون من تقديم أعمال أدبية رصينة تُحافظ على قيم المجتمع وأخلاقياته، بدلاً من تلك الأعمال التي تُمجد البلطجة والانحراف والفجور؟

أين دور علماء الأزهر الشريف، هذا الصرح العلمي العريق الذي يزخر بالعلماء الأجلاء الذين تعرف قدرهم وتحترمهم دول العالم أجمع؟ أين هم من التحول المتسارع والخطير في أخلاقيات وسلوكيات الشارع المصري؟

وأين دور الأجهزة الأمنية وسلطة القانون من مكافحة ظواهر البلطجة وتجارة  المخدرات، خاصة بعدما أصبحت مخدرات خطيرة مثل "الشابو" تجتاح مدن وقرى مصر؟ لقد شاهدنا جميعاً ذلك الشاب في محافظة الأقصر الذي ظهر على الكاميرات وهو يحمل رأس رجل قطعها ووقف يستعرض بها أمام عدسات التصوير، لا لثأر أو قضية شرف كما كان يحدث في بعض الحالات النادرة قديماً، ولكن لأنه كان تحت تأثير جرعة زائدة من مخدر "الشابوفاقداً لوعيه وإدراكه، غير مستوعب أنه قتل نفساً بريئة وخرّب بيتاً وشرّد أطفالاً أبرياء.

الغزو الثقافي وحروب الجيل الخامس: تهديد للهوية والأمن القومي


إن العدو الحقيقي يتربص بنا على حدودنا، ينتظر فساد المجتمع وضياع النخوة والشهامة والرجولة من شبابنا. إنه لا يخشى قوة سلاحنا وعتادنا العسكري بقدر ما يخشى من تلك اليد القوية التي تقبض على الزناد. فإذا كانت هذه اليد قوية صلبة، تخشى الله وتتقيه، هابها العدو وعلم أنه يواجه قوماً الموت أحب إليهم من الحياة في سبيل الله والوطن. أما إذا كانت يداً أنهكتها الشهوات وأضعفتها التفاهات واستهوتها الترندات والتحديات السخيفة، علم العدو أنه قادر على شراء النفوس وزعزعة العزائم، وأنه سينتصر علينا لا محالة.


لقطة شاشة لمنشور للضابط والمحلل الإسرائيلي إيدي كوهين وهو يمتدح رقص محمد رمضان ببدلة لامعة، معبرًا عن إعجابه بجيل ينبهر بهذه العروض، في مشهد يكشف سخرية خفية من واقع الفن العربي.
حين يرقص النجم… ويصفق العدو: إشادة إسرائيلية بمحمد رمضان تفضح انهيار الذوق العام


وسلاحه غير التقليدي الذي يوجهه نحو شبابنا يتمثل في السيطرة على منصات التواصل الاجتماعي وتوجيهها وفق أجندته الخبيثة. ولقد شاهدنا جميعاً بالدليل القاطع كيف أن من ينشر كلمة حق على "فيسبوك" لنصرة إخواننا المستضعفين المظلومين المحاصرين الذين يعانون من الجوع والحرمان من أبسط مقومات الحياة، يتم تقييد حسابه ومحاصرته إلكترونياً بحيث لا يراه أحد، بينما يتم إطلاق العنان لحسابات أخرى تنشر محتوى غير أخلاقي يشجع على الفسق والفجور، أو تبث خطاباً تحريضياً يستهدف إثارة الفتن والأحقاد بين أبناء الوطن الواحد.

لذلك، فإننا ندعو قيادة الدولة المصرية، وعلى رأسها السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، إلى اتخاذ إجراءات حازمة لمكافحة هذا الغزو الثقافي، من خلال تنظيم استخدام تطبيقات مثل "تيك توك" و"فيسبوك" و"إنستغرام" بقوة القانون، والعمل على إنشاء منصات تواصل اجتماعي مصرية وعربية تتماشى مع عاداتنا وتقاليدنا وتحافظ على أمننا القومي، مستلهمين في ذلك تجارب دول أخرى تعتز بقوميتها وتدرك أن هذه التطبيقات قد تُستخدم كأسلحة دمار شامل تستهدف شبابها وهويتها الثقافية.

الختام: مسؤولية الأسرة والمجتمع


وختاماً، يقع على عاتقنا جميعاً، كل أب وأم وأخ وأخت ومعلم ومربٍ، مسؤولية كبيرة في اتخاذ موقف جاد وحازم للحفاظ على القيم المجتمعية الأصيلة، والعمل بجد واجتهاد على إعادة صياغة منظومة التربية والتعليم بما يتناسب مع تحديات العصر. 

على الآباء والأمهات أن يمنعوا أطفالهم من الاستخدام المفرط للهواتف الذكية، وأن يحجبوا عنهم التطبيقات الضارة التي قد تؤثر سلباً على تنشئتهم الأخلاقية، وأن يغرسوا في نفوسهم مبادئ الاحترام والجدية والمسؤولية في التعامل مع الآخرين.

إذا استمر هذا التراخي والتهاون في مواجهة الظواهر السلبية المتنامية في مجتمعنا، فلن يكون من السهل بعد ذلك استعادة ما فقدناه من قيم وأخلاق ومبادئ. علينا أن نتحرك الآن بكل جدية ومسؤولية قبل أن يفوت الأوان، وأن نعمل معاً، أفراداً ومؤسسات، على بناء جيل قوي متماسك يعتز بهويته وقيمه، ويكون قادراً على مواجهة التحديات ومقاوماً للمؤثرات السلبية التي تستهدف نسيجنا الاجتماعي وهويتنا الثقافية.

الأحد، 27 أبريل 2025

قبيلة صنهاجة: التاريخ العريق لإحدى أكبر قبائل المغرب العربي

قبيلة صنهاجة: أسطورة المغرب العربي وصانعة ممالك الصحراء


في قلب الصحراء الممتدة، وعلى قمم الجبال الصامدة، يمتطي فرسان الطوارق صهوات العزة، بزيهم المهيب ولثامهم المضيء بهيبة التاريخ. عرب وأمازيغ، يجمعهم الإيمان، وتوحدهم الأرض، وتظللهم سماء الحرية والشرف

حين نتحدث عن تاريخ شمال إفريقيا، لا يمكن تجاوز ذكر قبيلة صنهاجة، التي لعبت دورًا محوريًا في صياغة ملامح المغرب العربي في العصور الوسطى. فقد كانت صنهاجة واحدة من كبريات القبائل الأمازيغية، ولها مساهمات بارزة في نشر الإسلام، وتأسيس ممالك عظيمة، وتشكيل التحالفات السياسية والعسكرية التي غيرت مجرى التاريخ في المنطقة.

في هذا المقال، نستعرض معًا تاريخ قبيلة صنهاجة، أصولها، فروعها، أهم شخصياتها، ودورها البارز في التاريخ الإسلامي.


أصل قبيلة صنهاجة

تنتمي صنهاجة إلى الشعوب الأمازيغية العريقة. وقد ذكر المؤرخون، ومنهم ابن خلدون، أن صنهاجة إحدى القبائل الكبرى الثلاث للأمازيغ، إلى جانب مصمودة وزناتة. ويُعتقد أن موطنهم الأصلي كان شمال الصحراء الكبرى والمناطق الجبلية بالمغرب، قبل أن تتوسع فروعهم نحو الشمال والجنوب مع الزمن.

ووفقًا للروايات التاريخية، فإن اسم "صنهاجة" مشتق من جدهم الأعلى "صنهَاج"، مما يرسخ انتماءهم العميق للأمازيغ القدماء الذين عاشوا في شمال إفريقيا منذ آلاف السنين.

طبعًا، هذا نص رائع وثري بالمعلومات، وسأعيد لك صياغته بلغة قوية فصيحة، مع الحفاظ على روح النص والأفكار الأصلية، وتحسين الأسلوب والتسلسل والترقيم بشكل أكاديمي منظم.



القول بعروبة صنهاجة وكتامة

اختلف النسابون والمحققون قديمًا وحديثًا حول أصل قبيلتي كتامة وصنهاجة، بل وعموم قبائل المغرب العربي: هل يعودون إلى أصول حميرية يمنية أم إلى البربر الأصليين بالمغرب؟


الرأي القائل بحميرية كتامة وصنهاجة

أغلب المؤرخين والنسابين المشارقة القدماء نسبوا كتامة وصنهاجة إلى قبائل حمير اليمنية. ومن هؤلاء:

  1. البلاذري (توفي 279هـ) في كتابه أنساب الأشراف، وقد ألّفه قبل تفكك الخلافة الإسلامية وتداخل السياسة بالأنساب.
  2. السمعاني (توفي 562هـ) في كتابه الأنساب.
  3. ابن الأثير (توفي 630هـ) في كتابه اللباب في تهذيب الأنساب.
  4. ابن خلكان (توفي 681هـ) في كتابه وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، حيث قال عن الملثمين:

    "أصل هؤلاء القوم من حمير بن سبأ، وهم أصحاب خيل وإبل وشاء، يسكنون الصحارى الجنوبية، وينتقلون من ماء إلى ماء كالعرب، وبيوتهم من شعر ووبر."

  5. القلقشندي (توفي 821هـ) في كتابه نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، حيث أورد أن مؤرخين كبارًا نسبوا صنهاجة إلى حمير، منهم: الطبري، المسعودي، عبد العزيز الجرجاني، ابن الكلبي، والبيهقي.

رواية الطبري

قال الطبري:

"العمالقة منهم البربر، وهم بنو ثميلا بن مارب بن فاران بن عمرو بن عمليق بن لوز بن سام بن نوح، عدا صنهاجة وكتامة، فإنما هم بنو أفريقش بن قيس بن صيفي بن سبأ."

ويفصل الطبري بأن أفريقش بن قيس، أحد ملوك التبابعة، قاد هجرة إلى أفريقيا، حيث فتحها وأسكن بها البقية من الكنعانيين الذين احتملهم معه من سواحل الشام.
(الطبري، تاريخ الأمم والملوك، القاهرة، 1326هـ، ج1، ص207–442).

تحليل:
يتضح من رواية الطبري أن أصل البربر شرقي، مرتبط بالسلالة السامية (القحطانية) والعروبة بشكل عام.

  1. السيوطي (توفي 911هـ) في كتابه لب اللباب في تحرير الأنساب، أكد بدوره النسب الحميري لكتامة وصنهاجة.

الروايات المتأخرة ونسب البربرية

أما الرأي القائل بأن كتامة وصنهاجة قبائل بربرية، فهو رأي بعض المؤرخين المتأخرين مثل:

  • ابن خلدون
  • ابن حزم
    وكلاهما من بلاد المغرب.

ومع ذلك، يذكر ابن خلدون أن أفريقش بن قيس غزا إفريقيا وقتل ملكها جرجير وبنى المدن والأمصار.
(ابن خلدون، العبر وديوان المبتدأ والخبر، بيروت، 1959، ج6، ص176).

ويذهب أيضًا إلى أن البربر بقايا قبائل كنعانية فلسطينية.
(العبر، ج7، ص7).

النسابة البربر ورواياتهم

أورد ابن خلدون أن نسابة البربر أنفسهم، كـ:

  • هاني بن بكور الضريبي
  • سابق بن سليمان المطماطي
  • كهلان بن أبي لؤي
  • أيوب بن أبي يزيد

كانوا ينسبون قبائل البربر إلى العرب، فالبتر من ولد بر بن قيس بن عيلان، والبرانس أبناء برنس بن بر بن مازيغ بن كنعان بن حام.

استنتاج:
رغم وجود روايات بربرية متأخرة، إلا أن معظم الروايات النسبية القديمة (حتى عهد السيوطي) كانت تنسب صنهاجة وكتامة إلى قبائل حميرية يمنية، استنادًا إلى مدونات مكتوبة توارثتها أجيال الإخباريين اليمنيين بدقة، في حين كان البربر يفتقرون إلى أدب مكتوب آنذاك.

أدلة لغوية

أثبت علماء اللسان أن الأبجدية التي يستعملها الطوارق (تيفيناغ) مستعارة من الفينيقية، وهي بدورها من اللغات السامية.
كما أن اللغتين العربية والبربرية تتميزان بوجود الحروف الحلقية، مما يدعم الفرضية الشرقية الأصل للبربر.

الهجرة الكبرى

أول من هاجر إلى شمال إفريقيا، بحسب الروايات، هو أفريقش بن قيس بن صيفي بن سبأ بن كعب بن زيد بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، في ذروة عصر مملكة سبأ وحمير.

(د. أيمن زغروت، النسابون العرب).

شهادة أدبية

اختتم الحسن بن رشيق القيرواني (توفي 456هـ) مادحًا الأمير البربري ابن باديس الصنهاجي قائلاً:

"يا ابن الأعزة من أكابر حمير
وسلالة الأملاك من قحطان"

(مقتبس من كتاب بربر أمازيغ عرب عاربة، د. عثمان سعدي).


تعقيب ما أشدّ غفلة من يعلي النسب على الدين، ويقيم ميزان الفضل على وهم الدماء! نرى اليوم أقوامًا من بعض العرب المتشددين يغلون في تمجيد عروبتهم، كأنها جواز نجاة، ويُهوّنون من شأن الأمازيغ، وكأن المجد قد خُلق حكرًا على قوم دون قوم. ومن الأمازيغ من غشيته غشاوة الجفاء، فراح يناصب العروبة العداء، ناسيًا أو متناسيًا أننا أبناء رجل واحد: آدم، وآدم من تراب.

وقد نطق الصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم، بكلمة الفصل: «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح».
العروبة، يا هؤلاء، لسانٌ ينطق لا دمٌ يسري، وروحٌ تنبض لا عرقٌ يُفتخر به.
أما التاريخ، فهو قاضٍ لا يجهل ولا يتحيّز، يشهد أن الأمازيغ حملوا مشاعل الإسلام إلى أقطار إفريقيا، وثبّتوا حصون الأندلس دهورًا، حين خارت عزائم غيرهم. وفي صعيد مصر، قامت دولة هوارة، حيث انصهرت دماء العرب والأمازيغ، وتآلفت قلوبهم على نصرة الدين والعزة.
اليوم، لا تعرف الهوارة إلا بالشرف والكرم والنجدة، صفاتٌ هي ميراث العرب والأمازيغ معًا، وكل من ركب صهوة الجهاد دفاعًا عن الإسلام، وحمل في صدره القرآن العربي المبين.
فدعوا العصبيات الجاهلية، ولا تفتنكم أنسابكم، فإنما ميزان الله بين العباد تقوى القلوب وعمل الصالحات.

 "الأنساب أوعية، وما يملؤها إلا الإيمان والعمل الصالح؛ فمن امتلأ وعاؤه زكى، ومن خلا فرغ، وسواء في ذلك العربي والأمازيغي وكل بني آدم."

 

صورة لملامح وعيون أبناء لصحراء المغربيه، وعلى قمم الجبال الصامدة، يمتطي فرسان الطوارق صهوات العزة، بزيهم المهيب ولثامهم المضيء بهيبة التاريخ. عرب وأمازيغ، يجمعهم الإيمان، وتوحدهم الأرض، وتظللهم سماء الحرية والشرف



فروع قبيلة صنهاجة

لم تكن صنهاجة قبيلة واحدة موحدة دائمًا، بل كانت تتكون من فروع وبطون متعددة. ومن أبرز فروعهم:

  • صنهاجة الشمال: الذين استقروا في جبال الريف وجبال الأطلس، وشكلوا تحالفات مع القبائل الأمازيغية الأخرى.
  • صنهاجة الجنوب: الذين انتشروا في الصحراء الكبرى، وأسهموا في تأسيس ممالك صحراوية مثل مملكة غانة الإسلامية.
  • اللمتونة: من أشهر بطون صنهاجة، وقاد زعماؤها حركة المرابطين، ومنهم خرج الزعيم الشهير يوسف بن تاشفين.
  • كدالة: من قبائل صنهاجة الجنوبية، وكان لها دور كبير في التجارة عبر الصحراء.
  • مسوفة: أيضًا من الفروع الجنوبية لصنهاجة، وهي من القبائل التي سيطرت على طرق التجارة بين المغرب والسودان الغربي.


دور صنهاجة في التاريخ الإسلامي


المساهمة في نشر الإسلام

مع دخول الإسلام إلى شمال إفريقيا، كان لصنهاجة دور بارز في نشر الدين الإسلامي بين القبائل الأخرى، وفي المناطق النائية من الصحراء الكبرى. اعتنق أغلب صنهاجة الإسلام في القرن الثامن الميلادي، ثم حملوه إلى أعماق إفريقيا، حتى وصلوا إلى حوض نهر النيجر.

تأسيس دولة المرابطين

يعد تأسيس دولة المرابطين أعظم إنجازات صنهاجة في التاريخ الإسلامي. ففي القرن الحادي عشر الميلادي، قامت قبائل لمتونة بقيادة الشيخ عبد الله بن ياسين بتوحيد بطون صنهاجة تحت راية دينية جهادية.

وبعد معارك طويلة، تمكنوا من إقامة دولة المرابطين، التي شملت أجزاءً واسعة من المغرب، وموريتانيا، وامتدت إلى الأندلس. وبرز الزعيم يوسف بن تاشفين، المنتمي لصنهاجة، كواحد من أعظم القادة المسلمين، حيث تمكن من هزيمة الصليبيين في معركة الزلاقة بالأندلس عام 1086م.


التحكم في الطرق التجارية

بفضل انتشارهم الواسع عبر الصحراء الكبرى، سيطرت قبائل صنهاجة الجنوبية (خاصة كدالة ومسوفة) على طرق التجارة الحيوية التي ربطت المغرب بالأراضي الإفريقية جنوب الصحراء. وقد أسسوا ممالك قوية مثل مملكة غانة الإسلامية، حيث كان التجار الصنهاجيون ينقلون الذهب والملح والبضائع بين الشمال والجنوب.


أهم شخصيات قبيلة صنهاجة

  • يوسف بن تاشفين: أمير المرابطين ومؤسس مدينة مراكش، وقائد المسلمين في معركة الزلاقة.
  • عبد الله بن ياسين: داعية ومؤسس حركة المرابطين.
  • يحيى بن إبراهيم الجدالي: من قادة اللمتونة الذين ساهموا في بدايات تأسيس الدولة المرابطية.
  • تمام بن يوسف: أحد كبار قادة صنهاجة في فترات لاحقة.


جغرافية انتشار صنهاجة

تنتشر بطون صنهاجة اليوم في عدة مناطق من المغرب وموريتانيا والجزائر ومالي، وإن كانت هويتهم الأمازيغية قد تأثرت بالعروبة والإسلام عبر القرون.

ومن أشهر المواطن الحالية لقبائل صنهاجة:

  • جبال الريف والأطلس المتوسط والكبير في المغرب.
  • ولاية أدرار وموريتانيا والصحراء الكبرى.
  • جنوب الجزائر خاصة منطقة تمنراست.


الصراع مع القبائل الأخرى

دخلت صنهاجة في صراعات طويلة مع قبائل أخرى، خاصة زناتة ومصمودة، سواء بسبب النزاعات السياسية أو بسبب السيطرة على المراعي وطرق التجارة. ومع ذلك، فقد أسهمت هذه التفاعلات في تشكيل حضارات مزدهرة وثقافات متنوعة في المغرب الإسلامي.


تأثير صنهاجة في الثقافة المغربية

يُلاحظ تأثير صنهاجة في الكثير من معالم الثقافة المغربية حتى اليوم، سواء من حيث:

  • العمارة، مثل بناء مدينة مراكش.
  • العادات الاجتماعية المرتبطة بالصحراء.
  • انتشار التصوف والزوايا الدينية التي أسسها بعض مشايخ صنهاجة.


تمثل قبيلة صنهاجة واحدة من الدعائم الكبرى التي بُني عليها تاريخ المغرب الإسلامي. فمنذ نشر الإسلام في الصحراء إلى تأسيس دول قوية مثل المرابطين، ومن السيطرة على التجارة الصحراوية إلى الدفاع عن الأندلس، سطرت صنهاجة بأحرف من ذهب صفحات مشرقة في تاريخنا العربي والإسلامي.

ويبقى السؤال مفتوحًا لك عزيزي القارئ:
هل تعتقد أن تأثير صنهاجة في المغرب العربي لا يزال حاضرًا بقوة حتى يومنا هذا؟ أم أن تطورات العصر قد غيّرت المشهد تمامًا؟