الخميس، 18 نوفمبر 2021

لماذا يقول المغاربيون 'سيدي' بينما يغيب اللقب عن المشرق؟

من سيدي بلعباس إلى سيدي بشر: اللقب ودلالاته بين المغرب والمشرق


مشهد لسوق تقليدي مغربي بطراز معماري مميز، تظهر فيه مبانٍ مزينة بالأقواس والزخارف الأندلسية، ويمر فيه رجال ونساء يرتدون الأزياء المغربية التقليدية، في لوحة نابضة بالحياة تعكس الهوية الثقافية المغاربية.


تأمل في ظاهرة جغرافية-ثقافية فريدة


تستوقفنا في رحلة التأمل المعرفي ظاهرةٌ لغويةٌ بالغة الدلالة، تتجلى في انتشار لفظ "سيدي" وسيادته في الفضاء الجغرافي والثقافي للمغرب العربي، بينما يكاد يختفي تماماً من أرجاء المشرق. وهذا التباين الصارخ يستدعي وقفة تأملية مستفيضة، إذ يكشف عن طبقات من التراكم الحضاري والاجتماعي الذي شكّل هوية المنطقتين بطرق متباينة، رغم انتمائهما إلى فضاء ثقافي وديني مشترك.


فالمتأمل في جغرافية المشرق العربي لا يكاد يعثر على أي شواهد تاريخية أو معاصرة تشير إلى اعتياد أهله على مناداة حكامهم أو أوليائهم الصالحين بلقب "سيدي"، بينما تزخر خريطة المغرب العربي بمئات المدن والقرى والأحياء التي يتصدر اسمَها هذا اللقب، حتى أضحت تشكل معلماً بارزاً من معالم الهوية المغاربية، ونمطاً متجذراً في البنية الثقافية والاجتماعية لشعوبها.


الانتشار الجغرافي: تدرج متناقص من الغرب إلى الشرق


إذا تتبعنا مسار انتشار لفظ "سيدي" على امتداد الخريطة الجغرافية للعالم العربي، نلحظ تناقصاً تدريجياً ملفتاً كلما اتجهنا من أقصى الغرب نحو الشرق، في ظاهرة تستحق التوقف والدراسة. فالمملكة المغربية تتصدر المشهد بأكثر من مائة موقع جغرافي يحمل هذا اللقب، تليها الجزائر بنحو خمسين موقعاً، ثم تونس بعدد يقل عن العشرين، فليبيا التي لا تتجاوز مواقعها ذات الصلة العشرة، وصولاً إلى غرب مصر حيث تظهر بضع مواقع متناثرة، معظمها مرتبط بأولياء صالحين من أصول مغاربية هاجروا إلى مصر خلال العصور الفاطمية والأيوبية وبدايات العصر المملوكي. ثم يكاد ينقطع تماماً شرق النيل وفي بلاد الشام والجزيرة العربية والعراق.


المغرب: موطن الأسياد الأول


تزخر خريطة المملكة المغربية بكثافة استثنائية من المواقع التي تحمل لقب "سيدي"، متوزعة بين ساحل المحيط الأطلسي والمناطق الداخلية. فمن أقصى الجنوب الغربي عند مدينة "سيدي إيفني" الساحلية، مروراً بعشرات المدن والقرى مثل "سيدي بوزيد" و"سيدي مختار" و"سيدي بوعثمان"، وصولاً إلى الشمال حيث "سيدي سليمان" و"سيدي قاسم" و"سيدي يحيى الغرب"، تبدو الخريطة المغربية وكأنها نسيج متصل من الأماكن المنسوبة إلى الأولياء والصالحين.


وتتجلى هذه الظاهرة بوضوح في محور الدار البيضاء-الرباط، حيث تنتشر أحياء وضواحٍ مثل "سيدي معروف" و"سيدي مؤمن" و"سيدي البرنوصي". أما في المناطق الداخلية، فتبرز مدن مثل "سيدي سليمان" و"سيدي قاسم" و"سيدي يحيى الغرب" كشواهد حية على تغلغل هذا اللقب في النسيج الجغرافي-الاجتماعي المغربي.


ويلاحظ المتتبع أن حضور الأسياد يتضاءل نسبياً في منطقة الريف وعلى ساحل البحر المتوسط، حيث لا نجد سوى أماكن قليلة مثل "سيدي محمد لحمر" و"سيدي اليماني"، وهو ما قد يشير إلى اختلاف في التكوين الثقافي والاجتماعي لهذه المناطق، أو إلى تأثيرات تاريخية متباينة.


الجزائر: امتداد ظاهرة الأسياد


تمثل الجزائر امتداداً طبيعياً لظاهرة انتشار لقب "سيدي" في التسميات الجغرافية، وإن بكثافة أقل من المغرب. فعند عبور الحدود المغربية-الجزائرية، تطالعنا مدن وقرى مثل "سيدي بلعباس" التي تعد من أشهر المدن الجزائرية، و"سيدي بومدين" و"سيدي العبدلي" و"سيدي لحسن".


وفي منطقة وهران وضواحيها، تنتشر مواقع مثل "سيدي بن يبقى" و"سيدي الشحمي"، فيما تظهر في المناطق الداخلية أماكن مثل "سيدي عبد المؤمن" و"سيدي علي" و"سيدي الأخضر". وتستمر هذه الظاهرة في محيط العاصمة الجزائر وشرقها، حيث نجد "سيدي موسى" و"سيدي عباد" و"سيدي سليمان" وغيرها.


تونس وليبيا: تضاؤل تدريجي


مع الانتقال إلى تونس، يلاحظ تناقص عدد المواقع التي تحمل لقب "سيدي" إلى نحو عشرين موقعاً فقط، من بينها "سيدي بوزيد" التي اكتسبت شهرة عالمية بعد أحداث الربيع العربي، و"سيدي بوعلي" و"سيدي عبدالله" و"سيدي مخلوف" وغيرها.


أما في ليبيا، فيتضاءل العدد بشكل أكبر، حيث لا نكاد نجد سوى بضعة مواقع محدودة مثل "سيدي بن البشيري" و"سيدي خليفة" و"سيدي نوح" و"سيدي عبد الواحد"، وهو ما يمثل مؤشراً على اقترابنا من نقطة انقطاع هذه الظاهرة الثقافية-الجغرافية.


مصر: بوابة الانقطاع وتلاقي الأنماط الثقافية


تمثل مصر منطقة انتقالية فريدة بين عالمي المغرب والمشرق، وهو ما ينعكس على ظاهرة انتشار لقب "سيدي" في مسمياتها الجغرافية والاجتماعية. فالملاحظ أن الأماكن التي تحمل هذا اللقب في مصر تتركز في منطقة الساحل الشمالي ووسط الدلتا، وأغلبها مرتبط بأولياء صالحين من أصول مغاربية، استقروا في مصر خلال فترات تاريخية محددة.


وتتجلى في مصر ظاهرة ثقافية بالغة الدلالة، تعكس تنوع الأصول والجذور العائلية، وتشابك النسيج الاجتماعي بين مكونات مختلفة المشارب والمنابت. فالقبائل والعائلات المصرية، خاصة في صعيد مصر، التي تعود بأصولها إلى المغرب العربي، أو تلك ذات الجذور الحجازية والشامية التي استقرت في المغرب العربي ردحاً من الزمن ثم عادت إلى مصر، ما زالت تحتفظ بموروثها الثقافي المغاربي في استخدام لفظ "سيدي". فتراهم يلقبون به الحفيد والدَ أبيه، ويخلعونه على العلماء من أولياء الله الصالحين، وعلى آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، في تواصل حي مع الموروث المغاربي الأصيل.


في حين نجد العائلات المصرية ذات الأصول الحجازية القادمة مباشرة من الشرق تنتهج نهجاً مختلفاً، إذ يلقبون والد الأب بلفظ "جدي"، ويطلقون على العلماء وأولياء الله الصالحين لقب "مولانا"، في انعكاس واضح للنمط الثقافي المشرقي. وهكذا تتجلى في أرض الكنانة صورة مصغرة للتنوع الثقافي واللغوي العربي، حيث تتعايش الأنماط المغاربية والمشرقية في نسيج اجتماعي فريد، يشهد على عمق التواصل التاريخي بين أقطار العالم العربي، رغم تمايز الهويات الفرعية وخصوصيتها.


فعلى الساحل الشمالي، نجد مدناً وأحياء مثل "سيدي براني" و"سيدي كرير" و"سيدي بشر" و"سيدي جابر"، بينما تظهر في وسط الدلتا مدينتا "سيدي سالم" و"سيدي غازي". ولكن بعد ذلك، ينقطع الأثر تماماً شرق النيل وفي بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية، مما يؤكد الطابع المغاربي المميز لهذه الظاهرة.


دلالات ثقافية وتاريخية عميقة


إن هذا التباين الجغرافي الحاد في انتشار لقب "سيدي" بين المشرق والمغرب ليس مجرد ظاهرة لغوية عابرة، بل يعكس تراكمات ثقافية وتاريخية عميقة، وتمايزات في البنى الاجتماعية والدينية والسياسية بين المنطقتين. فلعل في تغلغل هذا اللقب في النسيج المغاربي ما يشير إلى طبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع، وبين المقدس والدنيوي، وبين الأولياء وعامة الناس، في صياغة متفردة للهوية المغاربية.


كما يمكن أن يكون لهذه الظاهرة صلة بتاريخ التصوف في المغرب العربي، وبدور الزوايا والطرق الصوفية في تشكيل الوعي الجمعي والمجال العام، وبنمط السلطة السياسية والدينية الذي ساد المنطقة عبر العصور.


وبهذا يتجلى لنا كيف يمكن للقب بسيط مثل "سيدي" أن يكون مفتاحاً لفهم أعمق للتاريخ الثقافي والاجتماعي للمنطقة المغاربية، وللعلاقات المتشابكة بين الجغرافيا والهوية والتاريخ، في فضاء حضاري غني بالتنوع والثراء.

 

سيدي... اللقب الذي رسم الجغرافيا وأعاد رسم الهوية


وهكذا، فإن تتبّع مسار انتشار لقب "سيدي" بين المشرق والمغرب لا يكشف لنا مجرد فرق في الاستخدام اللغوي، بل يميط اللثام عن خارطة ثقافية شديدة التعقيد والتشظي، تشكّلت عبر قرون من التفاعل بين الديني والسياسي، بين الشعبي والنخبوي، بين الذاكرة الجماعية والعادات المتوارثة. إننا أمام ظاهرة لغوية-اجتماعية تحمل في طياتها بصمات التاريخ العميق، وتُجسّد عبر حضورها الطاغي في الفضاء المغاربي جانباً من سيرة التحولات الدينية والسياسية التي ميّزت الغرب العربي، وخصوصاً في ظل هيمنة الطرق الصوفية، وارتباطها بالمجتمع المحلي، وبناء الشرعية الرمزية للسلطة الدينية والشعبية.


لقد منح هذا اللقب للأولياء والصلحاء، ولأبناء الأشراف والمرابطين، مكانة تكاد تماثل الرمزية المقدسة، وتحوّل في المغرب العربي إلى جزء من بنية اللغة اليومية ومن ذاكرة المكان، حاضراً في أسماء المدن والقرى، والزويا والمقامات، وحتى في أنماط الخطاب الاجتماعي. بينما ظل المشرق العربي، بعلاقاته المختلفة بين السلطة والمجتمع، وتقاليده الدينية المتمايزة، يحتفظ بمفردات أخرى تؤدي أدواراً مشابهة، لكن دون أن تترسخ بنفس الكثافة أو العمق الرمزي.


ولعل ما يلفت النظر أكثر هو أن هذا اللقب، الذي يبدو لأول وهلة أنه تعبير عن توقير واحترام، قد تحوّل في المجتمعات المغاربية إلى أداة لبناء هوية محلية مشتركة، تتقاطع فيها الجغرافيا بالدين، وتلتقي فيها القبائل بالتاريخ، وينصهر فيها الإرث الشفهي بالوجدان الشعبي. فنحن لا نتحدث هنا عن لقب فحسب، بل عن ظاهرة نسجت خرائط، وأعادت رسم الذاكرة، وأنتجت وعياً جمعياً لا يزال حياً حتى اليوم.


من هنا تبرز أهمية دراسة هذه الظاهرة ليس فقط باعتبارها موروثاً لغوياً أو تقليداً اجتماعياً، بل بوصفها مفصلاً من مفاصل الهوية الثقافية والحضارية في العالم العربي، يتيح لنا استكشاف المساحات الخفية من العلاقة بين الإنسان والمكان، بين الكلمة والسلطة، بين الدين والذاكرة. وإن تأمل هذه الظاهرة بعمق، يسهم في إعادة قراءة العلاقة المعقدة بين المشرق والمغرب العربيين، تلك العلاقة التي لم تكن يوماً مجرد مسافة جغرافية، بل هي في جوهرها فسيفساء متشابكة من الدلالات والتجارب والمسارات.


فمن "سيدي بوزيد" في تونس، إلى "سيدي جابر" في مصر، مروراً بـ"سيدي بلعباس" في الجزائر و"سيدي معروف" في المغرب، نحن أمام سلسلة ممتدة من الذاكرة الحية، لا تنفصل عن تاريخ التصوف والسلطة والشرف والقرابة، ولا تنفك عن تشكيل وجدان الأجيال. ويبقى السؤال مفتوحاً: هل ما زال لقب "سيدي" يحافظ على معناه الأصلي؟ أم أنه، مثل كثير من مفرداتنا العربية، اكتسب مع الوقت دلالات جديدة تعكس تحولات العصر والمجتمع؟ وهل يمكن أن نشهد مستقبلاً ارتداداً لهذه الظاهرة في المشرق أو امتداداً لها في فضاءات عربية أخرى؟


هكذا، تبقى "سيادة اللفظ" أكثر من عنوان، بل مفتاحاً لتأمل معمّق في هوية تتشكل عند مفترق الطرق بين الشرق والغرب، بين القول والفعل، وبين التاريخ والمعيش اليومي.



فتح مصر في ضوء شجاعة الأنصار: قصة عبادة بن الصامت مع المقوقس

عبادة بن الصامت: نموذج الأنصاري في الفتوحات الإسلامية


لوحة تمثل مشهداً تاريخياً حياً ودرامياً للحوار بين عبادة بن الصامت والمقوقس، حيث يظهر عبادة بن الصامت يقف بثبات وشجاعة، متحدثاً مع المقوقس بوجه هادئ وصلب، بينما يقف المقوقس بجانبه مع مجموعة من مستشاريه، معبرين عن مشاعر التردد والرفض. في الخلفية، يمكن أن تكون هناك قوات من الجانبين في مواجهة مباشرة، تتراوح بين المعسكر الإسلامي المنظم والمترابط وبين قوات المقوقس في حال من التوتر والقلق. السماء قد تكون ملبدة بالغيوم، مما يرمز إلى التحديات التي يواجهها كلا الطرفين، بينما تبرز الأرض القاحلة من حولهم، تعكس حالة الحصار والقتال المستمر.



لم يكن فتح مصر حدثًا عسكريًا عابرًا في تاريخ الأمة الإسلامية، بل كان تحولًا حضاريًا عظيمًا غيّر مجرى التاريخ. قاد هذا الفتح رجال عظماء جمعوا بين الحكمة والبأس، وكان للأنصار دور مشرف في هذه الملحمة الكبرى. في هذه السطور، نسلط الضوء على أحد أبرز المواقف التي جمعت بين عبادة بن الصامت الأنصاري رضي الله عنه، والمقوقس حاكم مصر، في مشهد عكس قوة الإيمان وثبات العقيدة.



دور الأنصار في فتح مصر وحوار عبادة بن الصامت مع المقوقس:

عُرف القائد المسلم عمرو بن العاص بمهارته العسكرية الفذة وحنكته السياسية، وهو ما ظهر جليًا خلال قيادته لفتح مصر سنة 641م.
حين اقترب المسلمون من حدود مصر، سعى المقوقس، حاكم البلاد، إلى إيقاف الزحف الإسلامي، فأرسل إلى عمرو بن العاص وفدًا من رسله يعرضون التفاوض. ولكن عمرو، بدهائه، أمر بحبسهم يومين وليلتين، كما ذكر المؤرخ ابن تغري بردي في كتابه "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة"، ليريهم عن قرب حال المسلمين، من عبادتهم وزهدهم واستعدادهم للتضحية.

قلق المقوقس على مصير وفده، وسأل رجاله: "أترون أنهم قتلوا الرسل أو استحلوا حبسهم؟" ولم يكن يعلم أن عمرو قصد فقط أن يطلع الرسل بأنفسهم على روح المسلمين العالية.

بعد يومين، أُعيد الرسل إلى المقوقس، حاملين رسالة المسلمين التي تضمنت ثلاثة خيارات: إما اعتناق الإسلام، أو دفع الجزية، أو القتال. وعندما استفسر المقوقس عن أحوال المسلمين، أجابه رسله قائلين:
"رأينا قومًا الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الكبرياء، وليس لأحد منهم رغبة أو طمع في الدنيا."

حينئذٍ طلب المقوقس من عمرو إرسال أحد قادته للتفاوض المباشر. فبعث إليه وفدًا من عشرة رجال، كان من بينهم الصحابي الجليل عبادة بن الصامت الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه.

يُعد عبادة بن الصامت من كبار الصحابة الذين شهدوا بيعة العقبة والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. شارك في فتح مصر، واستقر لاحقًا في بلاد الشام، حيث تولى إمارة حمص، ثم قضاء فلسطين.

عندما مثل عبادة بن الصامت أمام المقوقس، بهر الحاكم الرومي بمهابته وقوة حجته وثباته، حتى خشي من مهابته وطلب أن يُرسل إليه رسولًا آخر غيره، لما رأى من عزة الإسلام وهيبة المسلمين.



حينما تحدث الأنصار: حوار عبادة بن الصامت مع المقوقس


وحدثنا سعيد بن عفير، قال: أدرك الإسلام من العرب عشرة نفر طول كلّ رجل منهم عشرة أشبار عبادة بن الصامت أحدهم.


قال: وأمره عمرو بن العاص أن يكون متكلّم القوم، وألّا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلّا إحدى هذه الثلاث خصال؛ فإن أمير المؤمنين قد تقدّم إلىّ في ذلك، وأمرني ألّا أقبل شيئًا سوى خصلة من هذه الثلاث خصال.

وكان عبادة بن الصامت أسود، فلما ركبوا السفن إلى المقوقس، ودخلوا عليه، تقدّم عبادة، فهابه المقوقس لسواده

- فقال: نحّوا عنّى هذا الأسود، وقدّموا غيره يكلمنى.

- فقالوا جميعاً: إنّ هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلما، وهو سيّدنا وخيرنا والمقدّم علينا، وإنما نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره به، وأمرنا بأن لا نخالف رأيه وقوله.


- قال: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم؟ وإنما ينبغي أن يكون هو دونكم.

- قالوا: كلّا، إنه وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعاً، وأفضلنا سابقةً وعقلاً ورأياً، وليس ينكر السواد فينا. 


- فقال المقوقس لعبادة: تقدّم يا أسود، وكلمني برفق؛ فإني أهاب سوادك، وإن اشتدّ كلامك علي ازددت لذلك هيبة! فتقدّم إليه عبادة.


فقال رضي الله عنه: قد سمعت مقالتك، وإنّ فيمن خلّفت من أصحابي ألف رجل أسود، كلّهم أشدّ سوادا منى وأفظع منظراً ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم منك لي، وأنا قد وليت، وأدبر شبابي، وإني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوّى لو استقبلوني جميعاً، وكذلك أصحابي، وذلك أنّا إنما رغبتنا وهمّتنا الجهاد في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدوّنا ممّن حارب الله لرغبة في دنيا، ولا طلبا للاستكثار منها؛ إلا أن الله قد أحلّ ذلك لنا، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالاً، وما يبالى أحدنا أكان له قنطار من ذهب، أم كان لا يملك إلّا درهما! لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسدّ بها جوعته لليله ونهاره، وشملة يلتحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله واقتصر على هذا الذي بيده ويبلغه ما كان في الدنيا، لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا ربنا، وأمرنا به نبيّنا، وعهد إلينا ألا تكون همّة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته، ويستر عورته، وتكون همّته وشغله في رضا ربّه وجهاد عدوّه.


لما سمع المقوقس ذلك منه، قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قطّ! لقد هبت منظره، وإنّ قوله لأهيب عندي من منظره؛ إنّ هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض ما أظنّ ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلّها.


ثم أقبل المقوقس على عبادة بن الصامت، فقال: أيّها الرجل الصالح، قد سمعت مقالتك، وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمري ما بلغتم ما بلغتم إلا بما ذكرت، وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبّهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجّه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده قوم معروفون بالنجدة والشدّة، ما يبالى أحدهم من لقي، ولا من قاتل، وإنّا لنعلم أنكم لن تقووا عليهم، ولن تطيقوهم لضعفكم وقلّتكم وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا، وأنتم في ضيق وشدّة من معاشكم وحالكم، ونحن نرِق عليكم لضعفكم وقلّتكم وقلّة ما بأيديكم؛ ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكلّ رجل منكم دينارين ؛ ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به.


- فقال عبادة بن الصامت: يا هذا؛ لا تغرنّ نفسك ولا أصحابك، أمّا ما تخوّفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنّا لا نقوى عليهم فلعمري ما هذا بالذي تخوّفنا به، ولا بالذي يكسرنا عمّا نحن فيه، إن كان ما قلتم حقّا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم، وأشدّ لحرصنا عليهم؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربّنا إذا قدمنا عليه، إن قتلنا من آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنّته، وما من شيء أقرّ لأعيننا، ولا أحبّ إلينا من ذلك؛ وإنّا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين؛ إمّا أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحبّ الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منّا، وإن الله عزّ وجلّ قال لنا في كتابه: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]، وما منّا رجل إلا وهو يدعو ربّه صباحا ومساء أن يرزقه الشهادة، وألّا يردّه إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا همّ فيما خلّفه، وقد استودع كلّ واحد منا ربّه أهله وولده؛ وإنما همّنا ما أمامنا. وأمّا قولك: إنا في ضيق وشدّة من معاشنا وحالنا؛ فنحن في أوسع السعة لو كانت الدنيا كلّها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه. فانظر الذي تريد فبيّنه لنا، فليس بيننا وبينكم خصلة نقبلها منك، ولا نجيبك إليها إلّا خصلة من ثلاث، فاختر أيّها شئت، ولا تطمع نفسك في الباطل؛ بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قبل إلينا، إمّا أجبتم إلى الإسلام الذي هو الدين الذي لا يقبل الله غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته، أمرنا الله أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه، فإن فعل كان له ما لنا وعليه ما علينا، وكان أخانا في دين الله؛ فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك، فقد سعدتم في الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحلّ أذاكم، ولا التعرّض لكم، فإن أبيتم إلا الجزية فأدّوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على شيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم، ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم، إذ كنتم في ذمّتنا، وكان لكم به عهد علينا، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت من آخرنا، أو نصيب ما نريد منكم؛ هذا ديننا الذي ندين الله به، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره، فانظروا لأنفسكم.

لكن المقوقس رفض هو وأصحابه بحجة أن تسليمهم يعنى الذل والعبودية، فخرج عبادة وأصحابه واستمر الحصار والقتال حتى توصل عمرو مع المقوقس فيما بعد واتفق على دفع الجزية، فكان بداية للعهد الإسلامى فى البلاد.




لقد كان فتح مصر حدثًا فارقًا في تاريخ الأمة الإسلامية، لم يكن مجرد انتصار عسكري، بل تجسيدًا لقيم الإيمان والتضحية والصدق. من خلال الحوار الرفيع بين عبادة بن الصامت رضي الله عنه والمقوقس، تجلى التزام المسلمين بمبادئ دينهم، حيث أظهر عبادة قوة حجته وثباته، مما جعل المقوقس يعترف بعظمة هذا الدين ورجاله.

هذا الموقف يُعد شاهدًا على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف فقط، بل بالقيم والمبادئ التي حملها المسلمون في تعاملاتهم.

إن هذه الحوارات التاريخية تبرز أن الفتح لم يكن مجرد استيلاء على أراضٍ، بل كان دعوة سلمية تُظهر عظمة الإسلام ورجاله، وتُسهم في نشره بين الأمم.

المصادر:

  • موسوعة "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" للمؤرخ ابن تغري بردي.
  • "سير أعلام النبلاء" للذهبي.
  • "فتوح مصر" لابن عبد الحكم.

إعداد: د. وليد الراعي الأنصاري.



أبناء المعبدي الأنصاري يرسمون على القلب وجه الوطن في يوم التخرج المجيد

تخريج أبناء المعبدي الأنصار.. رسمنا على القلب وجه الوطن وكتبنا المجد سطورًا


صورة تجمع الملازم أول خالد صديق المعبدي الأنصاري، والملازم أول محمد فوزي صالحين المعبدي الأنصاري، والملازم أول خالد صبري المعبدي الأنصاري، والملازم أول زياد صبري المعبدي الأنصاري، أثناء احتفال تخرجهم من كلية الشرطة والكلية الحربية


تعريف بالمعابدة الأنصار بسوهاج

 المعابدة الأنصار هم من ذرية الصحابي الجليل سعد بن عبادة سيد الخزرج، ومن أحفاد الأنصار الذين ناصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن خذله الناس.
انتقل أجدادهم إلى مصر في الفتح الإسلامي واستقر بعضهم بصعيد مصر، خاصة في محافظة أسيوط، و محافظة سوهاج بقرية شندويل البلد ومدينة طما، وظلوا يحملون شرف النسب الأنصاري جيلاً بعد جيل، حتى أصبحوا مضرب الأمثال في الكرم والعلم والأدب والشهامة.

وقد حملت هذه العائلة الكريمة ميراث المجد في القلوب قبل أن يُسجل في السجلات، وكان أبناؤها دائمًا في مقدمة الركب في ميادين الفخر والعلم والشرف.


تهنئة قلبية بمناسبة التخرج

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق؛ من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله."

بمشاعر تغمرها الفرحة والفخر، وقلوب يملؤها الاعتزاز والانتماء، نتقدم بأسمى آيات التهنئة والتبريكات إلى أبناء العمومة الكرام آل شافعين المعبدي الأنصاري بمحافظة سوهاج،
بمناسبة تخرج كوكبة جديدة من أبناء العائلة من أعرق المؤسسات العسكرية في مصر، رافعين رايات المجد والعزة بين أبناء الأنصار الأوفياء.

لقد كان هذا الإنجاز تتويجًا لمسيرة كفاح طويلة، خطتها أيادٍ مباركة آمنت بأن الشرف والكرامة لا يمنحان إلا لمن بذل الغالي والنفيس في سبيل رفعة دينه ووطنه.


أبناء آل شافعين المتخرجون من كلية الشرطة

نزف بكل فخر تخرج نخبة متميزة من أبناء العائلة من كلية الشرطة العريقة، وهم:

  • الملازم أول خالد صديق المعبدي الأنصاري
  • الملازم أول محمد فوزي صالحين المعبدي الأنصاري

نبارك لهم هذا الإنجاز الكبير الذي يثبت أن الدم الأنصاري لا يزال ينبض بالعطاء والولاء للوطن والدين.


أبناء آل المعبدي الأنصاري المتخرجون من الكلية الحربية

كما نزف بكل اعتزاز تخرج بطلين آخرين من أبناء العائلة الكريمة من صرح الكلية الحربية، وهما:

  • الملازم أول خالد صبري المعبدي الأنصاري
  • الملازم أول زياد صبري المعبدي الأنصاري

لقد رفعوا اسم العائلة عاليًا، وأكدوا أن العهد لا يزال موصولًا بين الأمس المجيد واليوم المشرق بإذن الله.


قصيدة الفخر والوفاء بالأنصار

نُهدي هذه الأبيات الشعرية النابضة بالحب والفخر والوفاء للأنصار وأبنائهم الميامين:

يا سحاب الترحال قف بدياري ** وأجعل الظل الظليل قراري
وأسكب الري للكواكب وأسقي ** من كؤوس الأمجاد للأنصار
أرسل الرعد في الصعيد ينادي *** ذاك جمع السادة الأخيار
هؤلاء الأمجاد طلع غصون ***** عالقات بأطيب الأشجار
هؤلاء الثمار التي تتباهى **** الفروع بها، يا سعدنا بالثمار
يا أخا الأنصار .. فخرك باد ***** مسند قد جاء في الأخبار
قم وردد في المآذن قولي ***** نحن أهل محبة المختار
يا أخا الأنصار ذلك جمع ***** مثل نقش نراه في الآثار
جمعتنا الجذور قبل زمان ***** فأرتبطنا بأوثق الأوصار
كل ماء في جذورك سار ****** ذات يوم حل في أوتاري
شافعين شافع ذاك فرع ***** خزرجي حل مصر دياري
كان في أصله عبادة قيس **** ناظم الدرات في الأشعار
كان رأس القريض في أندلس *** يوم كانت عروسة الأمصار
من بنيه أسوق نهر وداد ******* نحو واديكم بكل وقار
فأقبلوه من الشوافع وصلا ****** وامزجوه بمكمن الأسرار
وأوردوه على الزمان فعهدي***** أن يظل الوداد نهر جاري



وهكذا تكتمل مسيرة الفخر والاعتزاز بآل شافعين المعبدي الأنصاري، الذين حملوا راية المجد عبر القرون، وما زالوا يخطون بمداد العزة صفحات جديدة في سفر البطولات والوفاء.

نسأل الله تعالى أن يبارك في أبناء الأنصار، وأن يجعلهم ذخرًا لأمتهم ودينهم، وأن يرفع بهم رايات الحق والخير في كل ميدان.

اللهم بارك في الأنصار، وبارك في أبناء الأنصار، وبارك في أبناء أبناء الأنصار.
اللهم اجعلهم مفاتيح للخير مغاليق للشر، وحماة للأوطان، وسيوفًا مشرعة في سبيل نصرة الدين.

تحياتنا الصادقة، ودعاؤنا المتواصل،
د. محمد شافعين المعبدي الأنصاري