عبادة بن الصامت: نموذج الأنصاري في الفتوحات الإسلامية
لم يكن فتح مصر حدثًا عسكريًا عابرًا في تاريخ الأمة الإسلامية، بل كان تحولًا حضاريًا عظيمًا غيّر مجرى التاريخ. قاد هذا الفتح رجال عظماء جمعوا بين الحكمة والبأس، وكان للأنصار دور مشرف في هذه الملحمة الكبرى. في هذه السطور، نسلط الضوء على أحد أبرز المواقف التي جمعت بين عبادة بن الصامت الأنصاري رضي الله عنه، والمقوقس حاكم مصر، في مشهد عكس قوة الإيمان وثبات العقيدة.
دور الأنصار في فتح مصر وحوار عبادة بن الصامت مع المقوقس:
قلق المقوقس على مصير وفده، وسأل رجاله: "أترون أنهم قتلوا الرسل أو استحلوا حبسهم؟" ولم يكن يعلم أن عمرو قصد فقط أن يطلع الرسل بأنفسهم على روح المسلمين العالية.
حينئذٍ طلب المقوقس من عمرو إرسال أحد قادته للتفاوض المباشر. فبعث إليه وفدًا من عشرة رجال، كان من بينهم الصحابي الجليل عبادة بن الصامت الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه.
يُعد عبادة بن الصامت من كبار الصحابة الذين شهدوا بيعة العقبة والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. شارك في فتح مصر، واستقر لاحقًا في بلاد الشام، حيث تولى إمارة حمص، ثم قضاء فلسطين.
عندما مثل عبادة بن الصامت أمام المقوقس، بهر الحاكم الرومي بمهابته وقوة حجته وثباته، حتى خشي من مهابته وطلب أن يُرسل إليه رسولًا آخر غيره، لما رأى من عزة الإسلام وهيبة المسلمين.
حينما تحدث الأنصار: حوار عبادة بن الصامت مع المقوقس
وحدثنا سعيد بن عفير، قال: أدرك الإسلام من العرب عشرة نفر طول كلّ رجل منهم عشرة أشبار عبادة بن الصامت أحدهم.
قال: وأمره عمرو بن العاص أن يكون متكلّم القوم، وألّا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلّا إحدى هذه الثلاث خصال؛ فإن أمير المؤمنين قد تقدّم إلىّ في ذلك، وأمرني ألّا أقبل شيئًا سوى خصلة من هذه الثلاث خصال.
وكان عبادة بن الصامت أسود، فلما ركبوا السفن إلى المقوقس، ودخلوا عليه، تقدّم عبادة، فهابه المقوقس لسواده
- فقال: نحّوا عنّى هذا الأسود، وقدّموا غيره يكلمنى.
- فقالوا جميعاً: إنّ هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلما، وهو سيّدنا وخيرنا والمقدّم علينا، وإنما نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره به، وأمرنا بأن لا نخالف رأيه وقوله.
- قال: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم؟ وإنما ينبغي أن يكون هو دونكم.
- قالوا: كلّا، إنه وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعاً، وأفضلنا سابقةً وعقلاً ورأياً، وليس ينكر السواد فينا.
- فقال المقوقس لعبادة: تقدّم يا أسود، وكلمني برفق؛ فإني أهاب سوادك، وإن اشتدّ كلامك علي ازددت لذلك هيبة! فتقدّم إليه عبادة.
فقال رضي الله عنه: قد سمعت مقالتك، وإنّ فيمن خلّفت من أصحابي ألف رجل أسود، كلّهم أشدّ سوادا منى وأفظع منظراً ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم منك لي، وأنا قد وليت، وأدبر شبابي، وإني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوّى لو استقبلوني جميعاً، وكذلك أصحابي، وذلك أنّا إنما رغبتنا وهمّتنا الجهاد في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدوّنا ممّن حارب الله لرغبة في دنيا، ولا طلبا للاستكثار منها؛ إلا أن الله قد أحلّ ذلك لنا، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالاً، وما يبالى أحدنا أكان له قنطار من ذهب، أم كان لا يملك إلّا درهما! لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسدّ بها جوعته لليله ونهاره، وشملة يلتحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله واقتصر على هذا الذي بيده ويبلغه ما كان في الدنيا، لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا ربنا، وأمرنا به نبيّنا، وعهد إلينا ألا تكون همّة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته، ويستر عورته، وتكون همّته وشغله في رضا ربّه وجهاد عدوّه.
لما سمع المقوقس ذلك منه، قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قطّ! لقد هبت منظره، وإنّ قوله لأهيب عندي من منظره؛ إنّ هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض ما أظنّ ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلّها.
ثم أقبل المقوقس على عبادة بن الصامت، فقال: أيّها الرجل الصالح، قد سمعت مقالتك، وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمري ما بلغتم ما بلغتم إلا بما ذكرت، وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبّهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجّه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده قوم معروفون بالنجدة والشدّة، ما يبالى أحدهم من لقي، ولا من قاتل، وإنّا لنعلم أنكم لن تقووا عليهم، ولن تطيقوهم لضعفكم وقلّتكم وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا، وأنتم في ضيق وشدّة من معاشكم وحالكم، ونحن نرِق عليكم لضعفكم وقلّتكم وقلّة ما بأيديكم؛ ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكلّ رجل منكم دينارين ؛ ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به.
- فقال عبادة بن الصامت: يا هذا؛ لا تغرنّ نفسك ولا أصحابك، أمّا ما تخوّفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنّا لا نقوى عليهم فلعمري ما هذا بالذي تخوّفنا به، ولا بالذي يكسرنا عمّا نحن فيه، إن كان ما قلتم حقّا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم، وأشدّ لحرصنا عليهم؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربّنا إذا قدمنا عليه، إن قتلنا من آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنّته، وما من شيء أقرّ لأعيننا، ولا أحبّ إلينا من ذلك؛ وإنّا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين؛ إمّا أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحبّ الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منّا، وإن الله عزّ وجلّ قال لنا في كتابه: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]، وما منّا رجل إلا وهو يدعو ربّه صباحا ومساء أن يرزقه الشهادة، وألّا يردّه إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا همّ فيما خلّفه، وقد استودع كلّ واحد منا ربّه أهله وولده؛ وإنما همّنا ما أمامنا. وأمّا قولك: إنا في ضيق وشدّة من معاشنا وحالنا؛ فنحن في أوسع السعة لو كانت الدنيا كلّها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه. فانظر الذي تريد فبيّنه لنا، فليس بيننا وبينكم خصلة نقبلها منك، ولا نجيبك إليها إلّا خصلة من ثلاث، فاختر أيّها شئت، ولا تطمع نفسك في الباطل؛ بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قبل إلينا، إمّا أجبتم إلى الإسلام الذي هو الدين الذي لا يقبل الله غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته، أمرنا الله أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه، فإن فعل كان له ما لنا وعليه ما علينا، وكان أخانا في دين الله؛ فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك، فقد سعدتم في الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحلّ أذاكم، ولا التعرّض لكم، فإن أبيتم إلا الجزية فأدّوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على شيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم، ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم، إذ كنتم في ذمّتنا، وكان لكم به عهد علينا، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت من آخرنا، أو نصيب ما نريد منكم؛ هذا ديننا الذي ندين الله به، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره، فانظروا لأنفسكم.
لكن المقوقس رفض هو وأصحابه بحجة أن تسليمهم يعنى الذل والعبودية، فخرج عبادة وأصحابه واستمر الحصار والقتال حتى توصل عمرو مع المقوقس فيما بعد واتفق على دفع الجزية، فكان بداية للعهد الإسلامى فى البلاد.
لقد كان فتح مصر حدثًا فارقًا في تاريخ الأمة الإسلامية، لم يكن مجرد انتصار عسكري، بل تجسيدًا لقيم الإيمان والتضحية والصدق. من خلال الحوار الرفيع بين عبادة بن الصامت رضي الله عنه والمقوقس، تجلى التزام المسلمين بمبادئ دينهم، حيث أظهر عبادة قوة حجته وثباته، مما جعل المقوقس يعترف بعظمة هذا الدين ورجاله.
هذا الموقف يُعد شاهدًا على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف فقط، بل بالقيم والمبادئ التي حملها المسلمون في تعاملاتهم.
إن هذه الحوارات التاريخية تبرز أن الفتح لم يكن مجرد استيلاء على أراضٍ، بل كان دعوة سلمية تُظهر عظمة الإسلام ورجاله، وتُسهم في نشره بين الأمم.
المصادر:
- موسوعة "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" للمؤرخ ابن تغري بردي.
- "سير أعلام النبلاء" للذهبي.
- "فتوح مصر" لابن عبد الحكم.
إعداد: د. وليد الراعي الأنصاري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى كتابة تعليقك هنا. نحن نقدر ملاحظاتك! شاركنا رأيك أو استفسارك، وسنكون سعداء بالرد عليك