حين يتحدث القماش: حكاية العمامة العربية
الجذور التاريخية للعمامة
تعود العمامة إلى عصورٍ موغلةٍ في القدم، قبل بزوغ فجر الإسلام. في شبه الجزيرة العربية، حيث الشمس المحرقة والرمال اللاسعة، وُلدت الحاجة إلى غطاء يحمي الرأس والعنق، فكانت العمامة وسيلة عملية للوقاية من الطبيعة القاسية.
لكن مع بزوغ فجر الإسلام، تغيّرت دلالة العمامة، وارتقت من غطاءٍ وظيفي إلى شعارٍ ديني ورمز حضاري. فقد ورد في الحديث أن النبي محمدًا ﷺ عمّم عبد الرحمن بن عوف بعمامة سوداء، وأرخى طرفها بين كتفيه، وهي سُنّة اتبعها الخلفاء الراشدون ومن تبعهم بإحسان.
يُروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: "العمائم تيجان العرب"، وهي عبارة تختزل كثيرًا من المعاني التي ارتبطت بهذا الزي في وعي العرب والمسلمين، فقد كانت العمامة علامة على الفخر، العز، والرجولة.
دلالات العمامة: بين الرمزية والمعيش
الدلالات المعنوية
ترمز العمامة إلى الوقار، الحكمة، الرصانة، والهيبة. الرجل المعمم في الثقافة العربية لا يُنظر إليه كبقية الناس، بل يُحاط بهالة من الاحترام. ولذلك كانت العمامة مقرونة برجال العلم والدين والشرفاء والوجهاء.
الدلالات الاجتماعية
في المجتمع العربي التقليدي، لم يكن كل أحد يلبس العمامة. فقراء الناس لم يكونوا يرتدونها غالبًا، وكانت من علامات الثراء، أو العلم، أو الزعامة. لذلك، فقد كانت العمامة نوعًا من التمييز الطبقي الرمزي، توحي بالمكانة الاجتماعية للرجل الذي يضعها فوق رأسه.
الدلالات المادية
لم تكن العمامة رمزية فقط، بل عملية أيضًا. فهي تقي من الحر، وتدفئ في البرد، وتُستخدم أحيانًا كوسادة في السفر أو وسيلة للتضميد عند الجراح، بل وحتى كأداة للقتال حين تُلفّ على الذراع أو يُستخدم طرفها للربط. إنها زيٌّ يزاوج بين الشكل والوظيفة.
العمامة في الثقافات الإسلامية الأخرى
في الهند
تُعرف العمامة هناك بـ"الباغري" أو "السافا"، وهي زينة للرأس تلبس في الأعراس والمناسبات الكبرى، وترمز للشرف والرجولة. تتنوع ألوانها وتصاميمها حسب القبيلة والمنطقة، وتُعدّ العمامة رمزًا للهُوية الذكورية الهندية في الريف والمدينة.
في أفغانستان
العمامة الأفغانية المعروفة بـ"اللونگي" تحمل أبعادًا دينية وقبلية. شكلها وطريقة لفّها يكشفان عن الطائفة أو القبيلة التي ينتمي إليها مرتديها. وهي لا تزال حتى اليوم لباسًا شائعًا يزين رؤوس الرجال الكبار وقادة المجتمع.
في إيران
يرتدي رجال الدين الشيعة العمامة كزيّ ديني بامتياز، وهي تنقسم إلى نوعين: سوداء للسادة الذين ينتسبون إلى آل البيت، وبيضاء لغيرهم من رجال العلم. العمامة هناك ليست زيًا شعبيًا، بل شارة للسلطة الدينية، ووسيلة للتعريف الاجتماعي الدقيق.
العمامة في الحروب والسياسة
في تاريخ العرب، لم تكن العمامة مجرد لباس، بل قد تتحول إلى راية حرب. فقد كان سيد القوم إذا أراد إعلان النفير، نزع عمامته وعقدها لواءً. وهذه العادة تنم عن مدى ما تحمله العمامة من رمزية السيادة.
وقد ورد في الأخبار أن الصميل بن حاتم الشيباني، زعيم القيسية في الأندلس، أُهين في مجلس أبي الخطار، فخرج وعمامته مائلة. فسأله أحد الحجاب عن سبب ميلان عمامته، فرد بثقة: "إن كان لي قوم فسيقيمونها". وكانت تلك الجملة شرارة صراع طويل بين القيسية واليمنية، يُظهر كم أن العمامة كانت تمثل كرامة الرجل وجماعته.
العمامة في الأدب والتراث
تناولت الأشعار العربية العمامة باعتبارها رمزًا للهيبة والرجولة. ومما يُروى عن الشاعر المخضرم سحيم بن وثيل الرياحي:
"أنا ابنُ جَلا وطَلَّاعُ الثَّنَايَامتى أضعِ العمامةَ تعرفوني"
كما جاء في الحديث: "أن رسول الله ﷺ كان يتعوّذ من الجَوْر بعد الكَوْر"، أي من فساد الحال بعد صلاحها، وتشبيه ذلك بكور العمامة، أي لفّها، لأن فكها علامة على الفوضى بعد النظام.
ومما ينسب لعمر بن الخطاب رضي الله قول :"العمائم تيجان العرب".
ويقول الأحنف بن قيس:" لا تزال العرب عرباً ما لبست العمائم، وَ تَقَلَّدتِ السُّيُوفَ، وَ لَمْ تَعْدُدْ الحِلْمَ ذُلاً، وَ لاَ التَّوَاهُبَ فِيمَا بَيْنَهَا ضِعَةً".
وجاء عن أبي أسود الدؤلي قوله عن العمامة:
هي جُنّة في الحرب ومَكَثَّةٌ من الحرّ، ومَدفأة من القُرِّ ووَقار في النَّدِي، وواقيةٌ من الأحداث وزيادةٌ في القامة، وهي بَعدُ عادةٌ من عادات العرب.
وقيل لأعرابي: إنك تكثر من لبس العمامة فقال:
إنّ شَيْئًا فِيهِ السّمْعِ وَالبَصَرِ لجَدِيرٍ أن يُوقَى من الحرّ والقرّ.
ومن الأمثال العربية :
قصَّةُ مَثَل: أجملُ من ذي العِمامة
هذا مَثَلٌ من أمثال أهل مكَّة، وذو العِمَامَةِ هو سعيدُ بنُ العاصِ بنِ أميَّةَ، وكان في الجاهليَّة رجلاً جميلاً سيِّدًا في قومه، وكانَ إذا لَبِسَ عِمَامةً لم يلبَس قُرَشيٌّ عِمَامةً على لونها إجلالاً لهُ، وإذا خَرجَ لم تبقَ امرأةٌ إلا بَرَزَت للنَّظرِ إليهِ من جمالهِ، حتى صارَ يُضرَبُ المَثَلُ بهِ في الجَمال فيُقال: أجملُ من ذي العِمامة.
سأل الحجاج جلساءه عن أخطب الناس فقالوا:
الأمير أعلم
، فقال: أخطب الناس صاحب العمة السوداء بين أخصاص البصرة ؛ إن شاء تكلم وإن شاء سكت،و المقصود به الحسن البصري رحمه الله.
وجاء في الأخبار عنها : أن الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن، زعيم القيسية قد قدم الأندلس في أمداد الشام فرأس بها، فأراد أبو الخطار أن يضع منه فأمر به يومًا وعنده الجند فشتم وأهين فخرج وعمامته مائلة، فقال له بعض الحُجاب:
ما بال عمامتك مائلة !؟
فرد قائلًا: إن كان لي قوم فسيقيمونها، وبعث إلى قومه فشكا إليهم ما لقي، فقالوا: نحن لك تبع ثم قامت الحرب بين القيسية واليمنية أثر هذا الموقف، وكانت تكاد ان تأكل الأخضر واليابس ولا تبقى من العرب في الأندلس أحد منهم.
وكانت العرب تتوج سادتها بالعمائم الحمر
وكان الزبرقان بن بدر أحد سادة تميم يصبغها بالزعفران، وفى ذلك يقول المخبٌَل السعديٌُ:
ألْم تَعْلمِي يَا أُمّ عمــــرة أنّنـِـــي
تَخَطّأني رَيْب الزّمان إلاّ كِبَــــرا
وأشهدَ من عَوفِ حُلُولا كثِيـــرة
يحُجٌُونَ سِبٌَ الزٌِبْرَقانِ المُزَعْفَرَا
وقال الإمام مالك رضى الله عنه:
"الاعتمام والانتعال من زينة العرب"
العمامة في العصر الحديث
رغم تغير الأزياء وسرعة الحداثة، لا تزال العمامة تحتفظ بمكانتها في مجتمعات كثيرة. فبعض شيوخ القبائل والعلماء لا يظهرون دونها، وهي تُرتدى في المناسبات الوطنية والدينية.
وفي السودان، تُعتبر العمامة البيضاء جزءًا من هوية الرجل السوداني، وفي المغرب تزيّن رؤوس القضاة والعلماء، بينما في الخليج تُستخدم العمامة الخفيفة أو الغترة كبديل عصري لها، احتفظ بشكلها وإن تغيّر اسمها.
العمامة والهوية الثقافية
لا يمكن فصل العمامة عن الهوية الثقافية للعرب. فكما ترتبط السواك بسنة النبي، والعباءة بالوقار، فإن العمامة رمز للعروبة والإسلام معًا. إنها قطعة قماش، لكنها تنسج على الرأس تاريخًا من المجد.
وفي ظل دعوات التغريب والانصهار الثقافي، تظل العمامة مقاومة، شاهدة على ماضٍ عريق، ومكوّن من مكونات الشخصية العربية الأصيلة، حيث الحياء والهيبة والشرف.
العمامة ليست مجرد لباس يلفّ على الرأس، بل هي عنوان للهوية، وعلامة على المكانة، وشعار للحكمة والوقار. من شبه الجزيرة إلى الأندلس، ومن الحجاز إلى أفغانستان، ظلت العمامة حاضرة، تمثل التيجان التي لا تُصنع من الذهب، بل من قماشٍ ووقار.
لا تنسوا مشاركة المقال مع أصدقائكم وزيارة المدونة لمزيد من المواضيع الشيقة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى كتابة تعليقك هنا. نحن نقدر ملاحظاتك! شاركنا رأيك أو استفسارك، وسنكون سعداء بالرد عليك